زيارة .. قصة قصيرة للكاتب سمير الفيل
تحسست بيدي الصبارات القليلة التي كستها الأتربة فوق قبر عائلتي . المكان الذي أزوره كلما ألم بي ضيق حيث أذهب كي أخفف من غلواء نفسي ، ولأؤكد لذاتي أن الحياة لا تحتمل كل التعب والمعاناة التي أعيشها.
في هذه المرة اكتشفت أن باب المقبرة الذي كان مصنوعا من أعمدة خشبية بلون بني غامق قد فتح ، ونبتت أعشاب برية كان يبدو عليها النضارة حتى تخيلت أن هناك من يرويها.
جلست على حافة القبر المواجه لقبر عائلتنا ، وقد كان يعلوه شاهد يحمل اسم عائلة تسكن في سوق البلح ، هي ” حمص ” المشهورة بالانخراط في الطرق الصوفية.
أبي صانع الأحذية الذي مات في منتصف الثلاثينات من عمره دفن هنا ، وبعد رحيله بخمس سنوات مات جدي ، وها أنا على أعتاب الستين أقف متحيرا أن تكون كل هذه الخضرة اليانعة تظلل قبرا شبه مهجور ، لا يزوره أحد.
أغمضت عينيّ للحظات ، فوجدت حين فتحتهما شابا في منتصف العمر ، يسألني عن وجود مقهى يقدم اليانسون؟
قلت صادقا : يوجد عند المدخل ” عازق ” قد تجد فيه ما تطلبه.
أمسك بيدي ممتنا ، وسألني : ولم لا تشرب معي كوبا من اليانسون، إنه مفيد لصحتك؟
قلت وأنا أرتج تحت وطأة السعال : لا أحب المقاهي فأغلب روادها يدخنون السجائر.
حرك بيده سلسلة ممسكة بطرف ساعة فضية ، رفع الغطاء ، هز رأسه وهو يتأكد من الوقت : لن نجد هناك أحدا في هذا الوقت .
سرت معه باطمئنان عجيب ، كان يتقدمني وأنا أتبعه ، رغم أنني الذي دللته على مكان العازق . قابلنا صاحب المقهى بوجه بشوش ، ودون أن يسألنا عما نشرب غاب لبرهة ، ثم قدم له كوب يانسون ووضع أمامي مباشرة كوباً من الشاي .
تأملت وجه الرجل الذي لم يكثر من الكلام بل ظل يتأملني بصمت وكأنه يشرب ملامحي ، وقد لاحظت أن كتفه اليسرى بها ميل خفيف لا يكاد يرى . ميل حقيقي تنحدر معه عظمة الترقوة ، وكان له عينان بنيتان ، ونظرة فيها هدوء جم.
في مثل هذه الأحوال من المتوقع أن يسألني عن اسمي وعنواني ومهنتي ، وهو الشيء الذي لم يفعله الشاب معي ، ربما لأنني أكبر منه سنا ، توقعت أنه يستغرب صمتي وأنا المعروف بثرثرتي لكن لا أعرف طبيعة الشيء الذي ألجمني وجعلني في حالة من الأدب الجم.
المزيد من المشاركات
مد يده لكوب الماء فانتبهت إلى صبغة الورنيش في باطن يده والتي تمتد حتى أطراف أصابعه، إنها الصبغة التي تميز من يعملون في مهنة تصنيع الأحذية، التفت نحوه ، وددت أن أسأله عن اسمه ومهنته وبلده. قبل أن أنطق أمال الطربوش ناحية الجهة اليسرى مثل الصورة التي احتفظ أخي الأكبر بنسختها الوحيدة منذ أواخر الخمسينيات . أما المعطف التيل فقد بدا مهندما ، وهو يحبكه على جسده النحيل.
كنت خجولا من فحولة جسدي قياسا به ، من المعيب أن يعرف أنني أفرط في تناول الطعام . هو لم يسألني عن ذلك لكنه ظل يراقبني خفية حتى انتهيت من شرب الشاي، قال لي خطفا: شاي ” الجارية ” مدهش .
لم يزد عن هذه العبارة ، وعدت لسنوات الطفولة ، وجدي الحاج توفيق يعطيني قرشا كاملا وعبوة شاي “الجارية ” ويبتسم في وجهي : لا تلعب يا شقي. واشرب مرة واحدة في اليوم من شاي “الجارية ” لتصبح جنيا مثل المرحوم أبيك .
في عينيه وجدت لوما مكتوما ربما لملابسي المنكوشة ، لاحظت أناقته وهو الشيء الذي جعلني أهتز وأنا أحدثه في جملتين لا أكثر عن ضيق الوقت مع اختلاط المفاهيم وضياع المقاييس.
هز رأسه ، ربت على كتفي ، أشبعني بنظرة متأملة : حافظ على صحتك .
كان يبدو رغم سنه الصغير محملا بحكمة الحياة ، وكانت الستين التي تهتز تحت وطأة جلستي القلقة توصيني بالصمت وعدم الحديث الذي قد يخدش الجلسة.
مددت يدي بالحساب لصاحب المقهى الذي رد يدي وأخبرني أن الحساب قد تم دفعه رغم أن الشاب لم يفارقني .
مد يده بالسلام ، وقام واقفا ، فانحنيت دون إرادة مني نحو يده ألثمها ، استغرب من فعلتي لكنه لم يبد امتعاضا أو اعتراضا على فعلتي : دعني أراك ثانية .
بقيت مسمرا في مقعدي ، فيما وجدته يتجه نحو الممر الضيق المفضي لمقبرة العائلة. قلت في نفسي : لعلها مصادفة. كم في الدنيا من مصادفات .
بعد أن تماسكت ، وذهب عني الوجل ، توجهت ثانية لأقرأ الفاتحة على روح أبي ، وراعني أن وجدت باب المقبرة مغلقا ، والعشب قد تكسر عند الوسط وفي الأطراف القريبة .
التعليقات مغلقة.