Take a fresh look at your lifestyle.

مصطفى نصار يكتب: أنا مفلس رغم ثرائي الفاحش

35

كتب: مصطفى نصار
كم من مرة أردت أن تكون ثريًا لتسعد ، أن تشتري بيت الأحلام ، و تتزوج جوهرة قلبك ، لتصدم في النهاية أنك تعيس ، و يكثف الإعلان و التسويق نفسه الموضوع ، و يقوي الارتباط الشرطي نفسه بين الثراء و السعادة ، و لعل تلك الصورة ما تجعلك في قمة الجنون كمن تخبطه الشيطان من المس السحري ، لكنه مس من نوع منحدر يسجنك بحق داخل قبضان حياتك وعقلك الذي هندس على مدى سنوات لتقبل سعادة مستحيلة .

تكمن أوجه الاستحالة في تلك المعادلة أنها تضع المال في مكانة الحق المكتسب المتزايد لما لا نهاية ، ما يجعل الإنسان في حالة تسارع رهيب و تنامي متفكك ، لتحقيق في نهاية المطاف سعادة متناقضة بحد تعبير جيل لبيوفتسكي  في كتاب بنفس الاسم ، ليؤكد في نهاية المطاف أن الحداثة المأزومة خلقت “فخًا مصنوعًا ”بمدى الثراء و التقدم و الازدهار المادي ، ليصدم القارئ بفعل الحقيقة التاريخية ، و يؤكد أن السعادة تاريخيًا “نسبية و اتصالها بالقيم الحداثية نمطها “، مما أثر لتصدع الصورة الكاملة لها ، و كذلك السعي المحموم للكسب السريع وسط عالم يتسارع فيه التغييرات الانهيارية و التدميرية .

و تربو هذه الصورة لتصلق تمامًا بجميع جوانب الحياة بين المجتمعات باختلاف توجهاتهم الفكرية ، و الثقافية لتهدم الاستقرار النفسي للإنسان بأنواعها الثمانية من الشخصي و الاجتماعي و الأسري و الثقافي و التخصصي ، و تشمل الرؤية التقليدية كذلك بالاضمحلال الشامل و  التفتت الكبير لينتهى بمقولة ميشيل فوكو الشهيرة “لقد مات الإنسان بل لم يوجد من الأساس ،لقد كان اختراعًا اخترعناه “، و يتفاجأ الفقراء و الأغنياء أنهم يسعون من أجل دجل  تخيلي يقترب من دركة مخيفة من الاحتراق النفسي و تشاؤمية اليوم لتتبلور التمثيلة كاملة في مقولة لفريديك نيتشه “أن السعادة المالية خرف مروج له لتوسع الأرباح”.

فجاء بعد الحرب العالمية الثانية توجه عام يفيد يأن للسعادة اقتصاد محوري يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل المشاعر من جديد بطريقة تعتمد على المادية و تقترب من الحسية الحميمة كذلك ، ما أدى لتحريف معنى الرضا و السعادة بطريقة منحدرة و ممنهجة لدرجة أنها أخلت بقواعد المجتمع الأساسية و تسويقها ، و إعادة تصنيفها لتوجيه الشخص للاستهلاك ما يشتهيه المرء حتى الثمالة بعكس الرؤية التقليدية و المنطقية للسعادة ، و لعل ذلك ما جعل الفيلسوفة كلوديا ستريك في كتابها المعنون “اقتصاد السعادة ؛هل يجعلنا المال أكثر سعادة؟!” تدحض تلك النظرة السطحية بقولها “صناعة السعادة تتطلب امتلاءً و ذكاء اجتماعيًا “لكي تشعر بها .

في سياق مشابه ، يعرج الكاتب و بروفسور علم الاجتماع السياسي وليام ديفيز في كتاب صناعة السعادة إلي أننا نخدع بحرفية و مهارة عالية ، و نساق “لأن نشترى أشياء لا نحتاجها ، و أن نوضع لاتخاذ قرارات لايد لنا بها و أن يحدد طريقًا محددًا لنا مسبقًا “، و جذور تلك التمثيلة تعود للقرن السادس عشر عقب ظهور فلسفة النفعية على يد مل و بنتام ، أي بعبارة أخرى المنظومة كلها خربة ، و معاد تصميمها من قبل والدتك السعيدة للعالم ، و يظهر سؤال آخر في هذا السياق يتعلق بالغنى الفاحش عما كان يستطيع أن يشترى السعادة بمنتهى البساطة لامتلاكه الواسع لأداة تمكين و تقوية مثمرة .

إفلاس و فقر رغم الغنى …الأغنياء البؤساء في مقدمة المشهد .

في رواية الحرب و السلام لتولستوي ، توقف الأديب كثيرًا عند مشهد الكآبة الفداحة و الحزن القاتم الصادر من الحرب و الدمار و الخراب المدمر ، منتقلًا بين مشاهد متعددة و أحداث جسام لينتهى لحقيقة مفادها أن الحرب و إن تولد الآثار المادية الجسيمة لكنها لا تولد الثراء المطلوب لاعتماده الأساسي على البؤس و الكآبة النفسية ، لا الامتلاء الذاتي و الرضا الحقيقي الذي يجعل المرء يعيش بهدوء قائم بالدرجة الأولى نفسيًا على الذات الشخصية .

برغم علمهم بتلك الحقائق الواضحة ، لم يتعود أثرياء هذا العصر الحديث على التأقلم المزدوج و المريح الذي يتعمد بالدرجة الأولى على البراغماتية الضيقة و المصالح المحدودة فضلًا عن اهتمامهم المبالغ فيه بريادة الأعمال على حساب أولويات أخرى ضابطة للحياة حتى على المستوى العملي و العلمي ،فخلقت على إثر ذلك بيئة خصبة للأمراض النفسية و العقد المعرقلة و المعارضة لسير الأعمال الوظيفية و العمالية ، و قد تصيب المرء بالاكتئاب الحاد و القلق المزمن و الفردانية المدمرة و كذلك الوسواس القهرية التي تجعل المرء في حالة توتر دائم و فراغ مستمر و اقتحام للخصوصيات الشخصية بعمق .

فعلى سبيل المثال،  يستطيع إيلون ماسك شراء ٣٥٠ مليون أيفون و ٦٠مليون طائرة مدنية و ١٣٠ مليون عربية رانج روفر ، و يكسب بمبالغ خيالية قدرها ٧٨٠٠ دولار في الثانية الواحدة ، بإجمالي ثروة تبلغ ال٣٥٠مليار دولار ، و مع ذلك لا يشعر بأي سعادة أو بهجة مجيدة أو فارقة حياتيًا لكي يتحدث عنها من الأساس ، مع سريان الأمر نفسه مع كافة الأثرياء مثل جيف بيزوس ، و بيل جتيس ، و لاري بيدج و مارك زوكنبرح ليحاولوا بعدها بحق تعويض النقص ، و ملء الفراغ الموحش الذي يدفع الغالي من أجله لدرجة انتحاره المؤلم أو إيذاء نفسه .

في نفس السياق ، يعوض هؤلاء الأثرياء الفراغ و الأمراض النفسية مثل جيف بيزوس الذي أكد خلال حلقة بودكاست مع جون أوتن في الولايات المتحدة الأمريكية بأن سيسكن المريخ تريليون إنسان ، و كذلك سيتبرع بيل جتيس بكامل ثروته للفقراء و المشردين في أمريكا ، أما بالنسبة لأولاده فسيترك للفرد منهم ١٠مليون دولار فقط، أما بالنسبة لماسك فإنه سيبني مدن فضائية عديدة بواسطة شركة الفضاء الخاص به ، محملين بإرث ثقيل و حمولة منهوبة من المال و الإطار المادي الذي يحرك الفرد نحو هاويته المحتومة ، قد لا ترتبط تلك الهاوية بالانتحار و الكآبة و التعاسة فقط ، لكن التربة الخصبة ستقصف أمراضًا نفسية مزمنة .

و لعل الإحصاءات الدالة تعطي فكرة عن أغراض تلك المحاولات التعويضية الغريبة ، في تدليل صريح على عمق الأزمة المركبة في عالم المال و الأعمال ، فبحسب منظمة غالوب لاستطلاعات الرأي ٧٢ % من رواد الأعمال يعانون من اكتئاب حاد ، و ٦٥%من قلق حاد ، و ٣٤%من وسواس قهري ، متفقة مع دراسة أخرى من مؤسسة springer الألمانية المتخصصة في  البحث العلمي و الأكاديميا لاختراق البؤس مجتمع الأعمال بنسبة تتجاوز ال٧٥%، ليؤكد بعدها الكاتب الاقتصادي المتخصص في شئون الأغنياء إد ديلمر معربًا عن استغرابه و دحضه لخرافة الأغنياء السعداء بعبارة مقتضبة مؤجزة “الأغنياء من أتعس البشر على الأرض”ليطرح سؤال جوهري مفاده عن معيار السعادة و الرضا الحقيقي .

الزهد الدائم سر مغفول عنه للسعادة:الاتفاق الحضاري يهدم التعاسة!.

في كتابه السعادة تاريخ مؤجز ، يطرح الفيلسوف الأمريكي نيكولاس وايت رؤية بانورامية للسعادة و كيفية العيش بها بدءًا من فلاسفة ما قبل السقراطية للفلسفة المدرسية ، و بالطبع أتت رؤية الإسلام الأكثر توازنًا و صحة كما أشار الإمام ابن تيمية ، و ابن رشد في كتب عديدة لتتكون رؤية تاريخية جذرية مفادها أن السعادة الراضية تكتمل عند حد الكفاية المادي و المعنوي أي بعبارة أخرى لا تتمثل و تتمحور السعادة ماليًا و ماديًا فقط ، بل في الزهد لزيادة رقعة الشعبية و حب الناس لك .

و بالمناسبة ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل يسعد الناس و يسعد الله قبلهم ، فرد عليه ببشاشة معهودة قائلًا “ازهد ما في يد الناس ، تحبك الناس ، و ازهد في الله يحبك الله “، و بنفس النمط يؤكد ديجون الكلبي للاسكندر الأكبر حينما قال عن سر السعادة “الرضا في أن تعيش تحت ظل شجرة برغيف لوجبة الإفطار”، أي معيار السعادة يبني بالدرجة الأولى على الرؤية الكافية و الممتلئة نفسيًا و بدنيًا كذلك ، و هذا ما أكده الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبيونفيل في كتابه السعادة المتناقضة .

ليعلن بدوره أن السعادة المتناقضة تعبير عن المعيارية الثابتة لها بالعيش المرضي لا العيش المرتقى و المتسارع نحو الثراء السريع أو الفاحش لتحقيق رفاهية مساعدة أو كاسحة ببهجة و سعادة و فرح مضطرب غير متحقق إلا في أحلام اليقظة ، أو الآمال المثالية بالوصول لحالة يسميها علماء النفس بالظمأ الروحي و الاجتماعي الذي يحيل الفرد للجحيم الحي بقوة ، من جهات عدة بالضرورة مثل الاجتماعي و العملي و الأخلاقي ، و هنا يفاجئ الفيلسوف الفرنسي باسكال بوسكنار في كتابه بؤس الرفاهية ليرمي أن الرفاهية من دون أساس نفسي و أسري صلب و متوازن نوع من الجنون المحض و الارتيابي .

إن العودة للأصل لا ينفي التمتع بالفروع ، كما أن الفرع إن طغى على الأصل سقط الفرع بالماسك به أيضًا ما  يعكس تناقضًا جوهريًا بين الرضا و السعادة ، لكن عندما تستقلي على الوسادة عند نومك اسأل نفسك سؤالًا واحدًا ما يمنحني الأمان و السلام الداخلي بحق ، و من المؤكد أن الإجابة لن تكون سهلة أو بسيطة لإنها معقدة مكثفة ، و لاعتمادها الأصلي على التناقض الظاهري المربك بين الرضا و الزهد و السعادة بطريقة مندثرة و شبه مختفية بالأساس بسبب نمط الحياة الحديث المعتمد على نزع السحر عن العالم بتعبير ماكس فيبر عالم الاجتماع الشهير .

لا جدال أن كل إنسان يسعى و يحاول الحياة بسعادة و رقي لتحقيق أحلامه و الغرق في النعيم ، فكأنه في سباق حمي الوطيس ، و كذلك الفعل ما بعد التحقيق له يقع بين الحلم و الكابوس لغموضه الكامن في طياته الكبرى التي لا تنفك عن كونها مؤقتة ، و ليست ديمومة بالضرورة تحقيقًا لحديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم استخسنوا فإن النعم لا تدوم فتعرف أن لا سعادة دائمة و لا نعمة قائمة التمدد و التشغيل ، و أن اختبار الدنيا زائل بالتالي عبادة الدينار و الدرهم و ربطهما بالسعادة محض وهم ضخم مثبت يسمم الحياة .

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.