Take a fresh look at your lifestyle.

ناصر الجندي يكتب: التعليم هو اللبنة الأولى لنبذ التطرف الفكري

27

بقلم الخبير التربوي – الدكتور ناصر الجندي

التعليم هو الأداة الأهم التي تُشكِّل المجتمعات وتبني الأمم، فهو الأساس الذي يُمكننا من مواجهة الأفكار الهدامة والتطرف الفكري. ويُعدُّ التطرف آفة تهدد استقرار المجتمعات وتماسكها، بغض النظر عن كونه تطرفًا دينيًا أو سياسيًا أو فكريًا. إن مواجهة هذه الظاهرة تبدأ من التعليم، فهو القادر على غرس قيم التعايش والتسامح، وعلى بناء عقول ناقدة قادرة على التمييز بين الحقائق والأوهام.

 

كما أشار فريري (1970) في كتابه “تعليم المقهورين”، فإن التعليم يجب أن يكون تحريرياً، لا يعتمد فقط على التلقين، بل يعمل على تنوير العقول ومساعدتها على إدراك الواقع. فالعقول المتعلمة والمستنيرة تكون أقل عرضة للوقوع في براثن التطرف، حيث تعتمد على التحليل والنقد بدلاً من التبعية العمياء.

 

“علّموا أبناءكم كيف يفكرون، لا ماذا يفكرون، لتصنعوا عقولًا تحارب الظلام وتنشر النور.”

 

*ما هو التطرف الفكري؟*

التطرف الفكري هو التمسك بمعتقدات وأفكار متشددة، مع رفض أي رأي مخالف، بل ومحاولة فرض هذه المعتقدات على الآخرين بالقوة أحيانًا. التطرف ليس حكرًا على الدين فقط؛ بل يظهر أيضًا في السياسة والأيديولوجيات الفكرية. ووفقًا لدراسة أجراها هالستيد ورايت (2003)، فإن التطرف غالبًا ما ينشأ في بيئات يغيب فيها التعليم المتوازن ويُضعف فيها التفكير النقدي.

 

التطرف الفكري في الدين الإسلامي والمسيحي، على سبيل المثال، ينبع أحيانًا من تفسيرات خاطئة للنصوص الدينية تُستخدم لتبرير العنف أو التمييز. وفي السياسة، يظهر التطرف عند الاعتماد على الإقصاء ورفض التعددية. وهنا يظهر دور التعليم في تفكيك هذه الظاهرة، حيث يُعدُّ الوسيلة الأكثر فعالية لمعالجة جذور التطرف.

 

*دور التعليم في نبذ التطرف*

*1. تعزيز التفكير النقدي*

التعليم الذي يعتمد على تنمية التفكير النقدي يجعل الأفراد قادرين على التمييز بين المعلومات الصحيحة والخاطئة، مما يُقلل من فرص الانجراف وراء الأفكار المتطرفة. وفقًا لدراسة أجراها إينيس (2015)، فإن التفكير النقدي يُعدُّ مهارة أساسية تمكن الأفراد من تقييم الأفكار واتخاذ قرارات مبنية على الأدلة بدلاً من العواطف.

 

على سبيل المثال، فهم النصوص الدينية سواء في الإسلام أو المسيحية يتطلب تعليمًا يعزز القدرة على التحليل، وليس مجرد الحفظ. وهذا بدوره يحمي الأفراد من استغلال النصوص بشكل خاطئ لنشر الكراهية.

*2. غرس قيم التسامح والاحترام*

التعليم يُمكن أن يلعب دورًا كبيرًا في نشر قيم التسامح واحترام التنوع الثقافي والديني. فكما أكد جون لوك (1689) في كتابه “رسالة في التسامح”، فإن التربية القائمة على التسامح تُسهم في بناء مجتمعات أكثر استقرارًا.

 

على سبيل المثال، دراسة مقارنة بين التعاليم الإسلامية والمسيحية تُظهر أن كلا الدينين يدعوان إلى الرحمة والتسامح، ولكن الخطابات المتطرفة تُغفل هذه الجوانب لتروج للكراهية. التعليم الصحيح يُبرز القيم المشتركة ويعزز التفاهم بين الأديان.

*3. تصحيح المفاهيم المغلوطة*

في دراسة أجرتها فان دير ليندن وآخرون (2017) حول تأثير المعلومات المضللة، تبين أن التعليم الذي يركز على تقديم المعرفة الدقيقة يُسهم في تقليل تأثير الدعاية المتطرفة. على سبيل المثال، تصحيح المفاهيم الخاطئة حول الجهاد في الإسلام أو مفهوم الخلاص في المسيحية يمكن أن يُسهم في تحصين الأفراد من الوقوع في فخ التطرف الديني.

*4. التعليم كمنصة للحوار*

التعليم يُعدُّ جسرًا للحوار بين الثقافات والمعتقدات المختلفة. وفقًا لدراسة ألسدير ماكنتاير (2007)، فإن التعليم الذي يشجع الحوار يُسهم في بناء التفاهم المتبادل بين الأفراد، مما يُقلل من احتمالية نشوء صراعات فكرية أو دينية.

 

*التطرف السياسي ودور التعليم*

التطرف السياسي لا يختلف كثيرًا عن التطرف الديني في جذوره وآثاره. فقد أظهرت دراسة أجراها نوريس وإنغلهارت (2004) أن الجهل بالحقوق والواجبات السياسية يجعل الأفراد عرضة للاستغلال من قِبل الحركات المتطرفة. هنا يظهر دور التعليم السياسي في تعزيز وعي الأفراد بحقوقهم وواجباتهم، وفي تنمية قدرتهم على المشاركة السياسية السلمية.

 

*التحديات التي تواجه التعليم في مواجهة التطرف*

رغم أهمية التعليم في مواجهة التطرف، إلا أن هناك تحديات كبيرة تعترضه، منها:

*1. ضعف المناهج:*

المناهج التقليدية التي تركز على الحفظ دون الفهم تُعتبر بيئة خصبة لنشوء الأفكار المتطرفة (فريري، 1970).

*2. قلة تدريب المعلمين:*

إذا لم يكن المعلم مُدربًا على غرس قيم التسامح والتفكير النقدي، يصبح التعليم مجرد عملية تلقين بلا جدوى.

*3. غياب التربية الأخلاقية:*

التعليم الذي يغفل الجوانب الأخلاقية والقيم الإنسانية يُسهم في تعزيز الانعزال الفكري (كولبيرت، 2010).

 

*الخلاصة: التعليم كمنارة للسلام*

التعليم ليس مجرد وسيلة للحصول على المعرفة، بل هو بوابة نحو بناء مجتمعات متماسكة خالية من التطرف. من خلال تعزيز التفكير النقدي، ونشر قيم التسامح، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، يصبح التعليم هو السلاح الأقوى في مواجهة الأفكار الهدامة.

 

إن بناء نظام تعليمي متوازن وشامل هو استثمار في مستقبل أكثر أمانًا وعدلًا. وكما قال نيلسون مانديلا، “التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم”. لذلك، علينا أن نُولي التعليم الأولوية القصوى، ليس فقط كوسيلة للنهوض بالمجتمعات اقتصاديًا، بل كخطوة أساسية لبناء عالم يعمه السلام والمحبة.

 

“علّموا أبناءكم كيف يفكرون، لا ماذا يفكرون، لتصنعوا عقولًا تحارب الظلام وتنشر النور.”

 

*المراجع*

1. Freire, P. (1970). Pedagogy of the Oppressed. Bloomsbury Publishing.

2. Halstead, J. M., & Wright, V. (2003). The teaching of values and citizenship in the curriculum. Journal of Education Policy.

3. Innis, R. (2015). Critical Thinking: Concepts and Tools. Foundation for Critical Thinking.

4. Locke, J. (1689). A Letter Concerning Toleration. Clarendon Press.

5. Van der Linden, S., Leiserowitz, A., Rosenthal, S., & Maibach, E. (2017). Inoculating the public against misinformation about climate change. Global Challenges.

6. Norris, P., & Inglehart, R. (2004). Sacred and Secular: Religion and Politics Worldwide. Cambridge University Press.

7. MacIntyre, A. (2007). After Virtue: A Study in Moral Theory. University of Notre Dame Press.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.