صلاح زكي أحمد يكتب : واقعة فريدة من فريد
اشتد به المرض ، وحفل الإفتتاح لفيلمه الجديد على الأبواب ، كان من عاداته التي يعرفها أهل الفن والملايين من المعجبين بفنه ، تمثيلاً أو غناءً أو لحناً ، أنه لا يترك تلك المناسبة دون أن يذهب الى قاعة سينما ” ديانا ” التي لا يرىّ لها بديلاً لعرض أفلامه ، أن يذهب الى تلك الدار ، ويقف من مقعد البلكون المحجوز له ، ليحيي الجماهير التي أتت لمشاهدة فيلمه في يوم الإفتتاح.
الفنان الذي أقصده هو فريد الأطرش .. الموسيقار العظيم ، والفنان البارع في عالم التمثيل ، وصاحب الصوت المُميز الذي يترك عند كل مستمع اليه ، سوى الإعجاب والحب والدعاء ، فضلاً عن الرغبة في الإستماع الى المزيد ، حتى لو تكررت العبارة أو الفقرة الموسيقية عشرات المرات.
الحكاية التي إطّلعت عليها من خلال المقال الأسبوعي للأستاذة ” سناء البيسي ” المنشور في جريدة ” الأهرام ” بتاريخ ٢٧ ديسمبر ٢٠١٤ ، واقعة لم تمر على ذاكرتي من قبل ، وأخذت بكل اهتمامي ، الواقعة تتعلق ب ” جمال عبد الناصر ” والأستاذ ” فريد الأطرش ” كما إعتاد الرئيس أن يتحدث عنه ، أو يخاطبه.
فرغم زعمي بأنني أعرف الكثير عن حياة ومواقف الرئيس وسياساته وتاريخه ، إلاّ أنني لا أدعيّ أنني سمعت من قبل بتلك الواقعة الفريدة بحق من ” فريد الأطرش ” والرئيس ” جمال عبد الناصر “.
والحكاية تقول بأسلوب الأستاذة ” سناء البيسي ” الجميل والتلقائي والعذب :
” أن فريد قال لشقيقه ” فؤاد ” هات لي ورقة وقلم … سّند الشقيق لفريد ظهره بمسندين في وضع الجلوس ، ولأن تحريكه فيه من الخطورة الكثير ، وضع له حبة تحت اللسان توسع الشرايين ، وجاب له القلم والورق ووقف يستطلع الأمر خاصة بعد رفض فريد لجميع الحلول المطروحة بالنسبة لإفتتاح الفيلم الجديد ومن ينوب في الحفل عنه ، وكان من عاداته الإطلال من مقصورة خاصة في صدر البلكون ليواجه الجماهير أثناء استراحة ما قبل العرض ليرد على تصفيقهم بالتحية ونّثْر القبلات في الهواء وإمطارهم بصوره الممهورة باسمه …
سند فريد ظهره وكتب سطرين موجهين لمن !!.. لـ ” جمال عبد الناصر ” ذات نفسه :
” سيدي الرئيس … من عادتي أن أحضر ليلة العرض الأول لأفلامي ، لكني في هذه المرة ، أنا مريض … لذا أرجو ان تحضر افتتاح فيلم ” عهد الهّوىّ ” بدلاً مني ، وأن تقوم بتحية الجماهير نيابة عني ” وكان التوقيع بخط فريد الأطرش.
“تقول الأستاذة ” سناء البيسي” … أن الجميع عاش متخوفاً من رد فعل هذه الجرأة من فريد على قائد الثورة ، لكن أتت ليلة العرض الأول في السابع من فبراير ١٩٥٥ واشتد الزحام المُعتاد أمام السينما ، سينما ” ديانا ” وحضر جميع نجوم الفيلم وعلى رأسهم يوسف وهبي ومريم فخر الدين وعبد السلام النابلسي وإيمان …..
وفجأة حدث الهّرّج والمّرّجْ ودبت الحركة غير العادية في شارع عماد الدين ومن بعده شارع الألفي ، وبدأت الموتوسيكلات البخارية ترسل أزيزها المستمر ليتبعها رتل من السيارات السوداء ، وأمام السينما توقف الموكب ، ومن باب السيارة الأولى هبط السيد رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر .. وبرفقته المشير عبد الحكيم عامر … جاء الاثنان بصفة شخصية بالملابس المدنية ، أوائل الثورة ، ليصافحا الجميع ويصعدا للجلوس في مقصورة فريد حتى نهاية العرض …. تماماً تماماً كما تمنى فريد … وتماماً تماماً كما يثق في نفسه وفنه ورئيسه.
انتهى كلام الأستاذة ” سناء البيسي ” عن تلك الواقعة التي لم أسمع عنها ، إلاّ أنها جاءت على أكثر من واقعة بعد ذلك وفي نفس المقال ، تربط بين الفنان والرئيس ….
ذّكّرت تلك الوقائع في مقالها الرائع الذي خصصته بالكامل عن حياة هذا الفنان الفريد ، في حياة العرب ، والذي كان يحمل بجانب جنسيته السورية ، بحكم مسقط الرأس في جبل الدروز بجنوب سوريا ، الجنسية اللبنانية أيضاً بحكم انتماء الأم ، والمصرية التي مُنحت له بقرار مصري من الرئيس ” عبد الناصر ” فضلاً عن الجنسية السودانية التي أعطيت له بعد ثورة مايو ١٩٦٩السودانية ….
الغريب والمدهش في تلك الواقعة ، لم يكن موقف الرئيس ، واستجابته السريعة لدعوة ” فريد الأطرش ” للحضور بدلاً منه في يوم افتتاح الفيلم ، فالمدهش سوف أأتي عليه حالاً …
فالرئيس سبق وإنتصر للسيدة ” أم كلثوم ” بعد أيام من قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ ، عندما تطوع أحدهم بمنع صوتها من الإذاعة المصرية بدعوىّ إنتماءها للعهد الملكي البائد ، وغنائها لملك البلاد ” فاروق الأول ” أغنيتها الشهيرة ” الليلة عيد ” بمناسبة ذكرى ميلاده ، يومها قال ” ناصر ” قولته لهذا الضابط الأغّر الذي كان مُشرِفاً على الإذاعة :
” عندما نهدم أهرامات الجيزة ، نهدم أيضاً معها ، هرم آخر اسمه ” أم كلثوم ” ….”
الموقف أيضاً تكرر بعد ذلك بسنوات قليلة ، عندما إنتصر ” جمال عبد الناصر ” لأصحاب الفكر والقلم ، عندما أُبلغ وفي اجتماع لمجلس الوزراء ، أن وزير التربية والتعليم ، ، السيد ” اسماعيل القباني ” إتخذ قراراً برفت ، أي رفد الأستاذ ” توفيق الحكيم ” من موقعه الوظيفي كمدير لدار الكتب المصرية التي كانت تتبع وزارته ، فما كان أن سمع من الرئيس محاضرة عن قيمة ” توفيق الحكيم ” في تاريخ الأدب المصري والعربي ، وتأثره هو شخصياً وأغلبية أبناء جيله ” بكل الأعمال الفكرية والإبداعية للأستاذ” الحكيم ” ، وخصوصاً رائعته ” عودة الروح ” التي تحدث فيها عن ثورة الشعب في عام ١٩١٩ …
المزيد من المشاركات
يومها خسر الوزير موقعه ، وظل ” الحكيم ” في موضعه في قلب كل مصري وعربي وانسان ، بل وحصل على أول وسام تُصدره مصر في عهد الثورة تكريماً لشخصه وفكره …
المُدهش في الأمر ، هي تلك الواقعة التي حدثت في شهر مارس عام ١٩٧٠ ، اذ علم الرئيس برفض السيدة ” أم كلثوم ” بلحن أعّدّهُ ” فريد الأطرش ” لها ، اذ بعد موافقتها عليه ، اعتذرت بدبلوماسيتها المعهودة ، وبإيحاء من أولاد ” الحلال”!!! ….
” أولاد الحلّال ” الذين دخلوا على الخط ، وأفسدوا ما كان مُتفقاً عليه …
يومها عرف الرئيس بالحالة النفسية السيئة التي عاشها ” فريد “…. فماذا فعل الرئيس ؟؟؟.
الرئيس وقتها كان يقود حرب الإستنزاف العظيمة ، ويتابع مع قيادات جيشها أول حرب إليكترونية في التاريخ ، حرب سلاح الدفاع الجوي المصري ، بقيادة الفريق ” محمد علي فهمي ” مهندس حائط الصواريخ ، وإسقاطه اليومي لطائرات العدو الإسرائيلي ، فضلاً عن عمليات العبور اليومية والفدائية للشاطئ الشرقي للقناة …
ففي صباح السبت ١٤ مارس ١٩٧٠ دق جرس التليفون في شقة الأستاذ ” فريد ” بالدور العاشر في العمارة ٧٦ شارع النيل بالجيزة ، الشهيرة بعمارة ” فريد الأطرش ” …
كان المتحدث هو السيد ” صلاح الشاهد” كبير الأُمناء برئاسة الجمهورية الذى يّزُف اليه بُشرى إنعام الرئيس ” جمال عبد الناصر ” بوسام الإستحقاق من الطبقة الأولى …
وفي اليوم التالي دّخّلّ ” فريد ” الى القصر الجمهوري ، وقد أعاده قرار الرئيس عشر سنوات من سنوات العمر ، اذ رجع الى عز شبابه ، فالفرح والتألق كان يملأ قسمات وملامح وجهه ، ويقرأ كلمات الرئيس الممهورة بتوقيعه على براءة الوسام الممنوح له ولعطاءه :
” من جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة الى الموسيقار الكبير الاستاذ … فريد الأطرش … تقديراً لحميد صفاتكم وجليل خدماتكم للموسيقى ، قد منحناكم وسام الإستحقاق من الطبقة الأولى …. وأمرنا بإصدار هذه البراءة إيذاناً بذلك …. توقيع جمال عبد الناصر “.
في الأسبوع نفسه توالت الإحتفالات ، احتفالاً بتكريم الأستاذ ” فريد الأطرش ” وكان أهم هذه الإحتفالات ما شهدته قاعات وحديقة معهد الموسيقى العربية ، اذ حضر رجال السلك الدبلوماسي والمئات من أهل الإعلام والسياسة والفن ، وكانت سيدة الغناء العربي ، السيدة ” أم كلثوم ” على رأس الحضور …!!
في العام نفسه انتقل ” جمال عبدالناصر ” الى رحاب الله ، في ٢٨ سبتمبر من العام ١٩٧٠ ، وبعد أربع سنوات لحق به ” فريد الأطرش ” في ٢٦ ديسمبر من عام ١٩٧٤، لتبقى الكلمة الصادقة والفن الجميل ، وذكرى إحترام كل ماهو أصيل ….
رحم الله الجميع …. )
صلاح زكي أحمد
القاهرة :
يوم الاثنين الموافق ٢٧ ديسمبر ٢٠٢١
الإهداء :
الى روح الفنان الكبير ” فريد الأطرش ” الذي رحل عن عالمنا في يوم ٢٦ ديسمبر ١٩٧٤…
رحم الله الجميع ، الرئيس والفنان وكل من أحب هذا الوطن الجميل .
التعليقات مغلقة.