حوار- السيد الزرقاني
عرفنا منذ زمن بعيد إعلاميا متميزا، له طلعته البهية بصوته الأجش الذي يأخذك إجباريا للمتابعة، ثم انضم الي كتيبه المبدعين والروائيين بما يملكه من أسلوب متميز أيضا، وأصبح له العديد من الإصدارات الأدبية المتنوعة ما بين مجموعات قصصية أو روايات كل منها تحمل طابعا منفردا في عالمها، إنه الإعلامي والروائي محمد جراح، الذي أجرينا معه هذا الحوار فكانت البداية سالناه:-
تجربتك الأدبية متنوعة وثرية ما بين الشعر والرواية والقصة؛ أيهما وجد الأديب “محمد جراح” نفسه فيها؟
كعادة من تعتريهم مظاهر الكتابة والميل نحو الإبداع بدأت تجربتي مع الإبداع مبكراً وكانت وسيلتي للتعبير عن مكنوني هي الشعر؛ وجدته الوسيلة الأبلغ في توصيل المعنى لما فيه من صور وتشبيهات ومجازات وتكثيف يصل بالمعنى المراد؛ والهدف المطلوب بسرعة الصاروخ؛ وبدأت في ارتياد المحافل الأدبية ومراسلة الصحف والمجلات وكثيراً ما تلقيت ردوداً تحمل ملاحظات على نصوصي من مجلة الشعر التي كان يرأس تحريرها الشاعر فتحي سعيد؛ ولا أنكر أنني كنت أنظر للقصة والرواية نظرة دونية ورأيتهما في تلك المرحلة المبكرة من حياتي تأتيان تاليتان للشعر؛ وذلك على الرغم من عشقي لمادة الإنشاء أو التعبير التي كنت أحصل فيها على الدرجة النهائية دائماً وطوال رحلتي الدراسية؛ وربما كانت تلك الدرجات اعترافاً مبكراً بي ككاتب يحسن التعبير وإن كان ما يزال يرتدي ثوب التلميذ دون ان أنتبه؛ وعلى الرغم من قيامي بكتابة فصول من رواية لم تكتمل وأنا في الصف الثاني الثانوي لكنني ركنتها جانباً وأنا أركض وراء الشعر الذي أتعبتني موازينه.
وانعكست روح السرد التي تسكنني على كل كتاباتي الشعرية دون أن أشعر حتى اكتشفها ذات مساء الأديب الراحل فؤاد قنديل إذ أنني عندما انتهيت من إلقاء قصيدتي في الندوة الشهرية بقصر ثقافة بنها عام 1978م وكنت وقتها طالباً أنهى المرحلة الثانوية ويستعد لدخول الجامعة؛ حدثني وقتها وفاجأني قائلاً: نصوصك جميلة وبها أجواء سردية رائعة؛ فلماذا لا تجرب نفسك في كتابة القصة؟؛ أزعجتني النصيحة أو الطلب وشعرت وقتها بأن الأستاذ فؤاد لا يعترف بي كشاعر؛ لكنني عقلت الأمر فيما بعد وفكرت فيه بهدوء وبعد فترة لم تطل كتبت قصتي الأولى؛ ولم اصدق نفسي عندما تم نشرها في مجلة مطبوعة كانت تصدر عن بيت الأدب بقصر ثقافة القناطر الخيرية؛ ومن يومها اتجهت لكتابة القصة وكانت لغتي الشاعرة طاغية على قصصي؛ فكانت كل نصوصي مكثفة اللغة وهو ما ظهر في المجموعات القصصية الأربع التي أصدرتها؛ وكذلك في روايتي الأولى ” العابدة” التي أشاد بها وبلغتها وعالمها كل من الراحلين الكبيرين محمد جلال ود حامد أبو أحمد.
لكل كاتب قضية يحاول الوصول بها إلى وجدان وعقل القارئ؛ فما هي قضيتك الأولى؟
حاولت في كل ما كتبت أن يكون التاريخ حاضراً سواء في القصة أو الرواية وقد آلمني وما يزال الألم يسكنني حتى الآن بسبب تراجع معدلات القراءة واهمال التاريخ وعدم استيعابه واستخلاص الفائدة من بين سطوره وأحداثه؛ قضيتي هي التاريخ الذي أود أن نقرأه جيداً؛ لأن من يقرأ التاريخ يصنع المستقبل؛ ونخن أمة ثرية بتاريخها وماضيها التليد؛ قضيتي وأمنيتي كذلك أن يتقدم المبدعون الحقيقيون ليحتلوا صدارة المشهد وليزيحوا بنورهم ظلمة وسواد المزيفين الذين تسللوا بليل إلى معظم مؤسساتنا الثقافية؛ ومن عجب أنهم استغلوا مواقعهم الوظيفية وعلاقاتهم فحشروا أنفسهم وسط المبدعين وتفوقوا عليهم بمواقعهم الوظيفية دونما حياء.
لكل كاتب مقومات نجاح في كل زمان ومكان؛ فما هي المقومات التي تساعد على نجاح المبدع والكاتب في ظل هيمنة وسائل التواصل على حياة الجميع؟
مقومات نجاح أي كاتب موهبة تسكنه؛ وملكات يملكها؛ وإرادة تستطيع توظيف تلك الموهبة وتستدعي تلك الملكات الإبداعية؛ هذا بالإضافة إلى متسع من الوقت الذي يسمح للمبدع بالقراءة والتأمل والكتابة والتجويد وصولاً إلى الوسيلة التي ستحمل ابداعه على المتلقي أو القارئ.
والمشكلة الآن خصوصاً في مصر أن المشكلات الاقتصادية لا أقول إنها قد ألقت بظلالها على أحوال المثقفين؛ ولكنها للأسف قد طحنتهم بآلتها الحديدية وتروسها التي لا ترحم؛ فإذا كان الكاتب في دول العالم الأول يستطيع العيش من كتاباته فإن الكاتب هنا مهموم بتدبير نفقات معيشته ومتطلبات أسرته؛ وهو مطحون بين وظيفة تستهلك وقته وتحارب مخيلته؛ فإذا ما استطاع أن يتفلت من بعض تلك المنغصات واجهته مشكلة النشر والوصول إلى القارئ سواء النشر في الصحف والمجلات أو بين دفتي كتاب؛ والحديث في هذا الأمر يطول فدور النشر الحكومية تكتظ أرففها بإبداعات آخرين تنتظر دورها؛ ودور النشر الخاصة تفرض شروطها بل إن بعضها لا يتورع في تحميل الكاتب تكاليف طباعة عمله الذي لا يعرف كم هي النسخ التي طبعت منه؛ ولا آليات وصولها إلى القراء؛ والعكس من كل ذلك هو الحادث في دول العالم الأول التي تحتفي بكتابها؛ وتقوم بتسويق إبداعهم؛ وفي العقود الأخيرة ظهر الوكيل الأدبي وهو الكيان الذي يتولى عملية تسويق الكاتب والمشاركة في حفر اسمه في أذهان القراء؛ لكن هذا الوكيل طل عندنا على استحياء؛ ولما تقدم كان انتقائياً بمعنى أنه قام “بالتخديم” على أنصاف وأرباع كتاب ولم يهتم على الإطلاق بمن يمتلكون أدواتهم مثله في ذلك مثل وكلاء الساحة الفنية الذين آثروا تقديم الغث على الثمين من صنوف الفن حتى سادت ثقافة تقترب بخطى واسعة من ثقافة القبح التي أخشى على الأجيال الجديدة من اعتيادها فتصير واقعاً.
تحاول في كل ابداعاتك أن تستلهم الحكمة من التاريخ المصري القديم فما سر شغفك بالحضارة المصرية القديمة؟
في التاريخ المصري القديم معين لا ينضب من الدروس والعبر والاحداث؛ ومن يقرأ ذلك التاريخ جيداً سيشعر بواقعية المثل الشعبي الشهير “ما أشبه الليلة بالبارحة”، التاريخ المصري كان متكئاً لي ومعيناً استفدت منه وما أزال؛ كان التاريخ معيناً في تفسير الحاضر؛ وقد تجلى ذلك بشكل واضح في رواية رب البداوة ومثلما يتجلى بشكل أنصع في رواية مصنع الأصنام؛ ولعل اهتمامي بذلك التاريخ قد جلته دراستي لعلم الآثار المصرية الذي جعلني ليس فقط شغوفاً بتاريخ جدودي ولكن مستفيداً من عطائهم وسيرهم التي أحسنت قراءتها وفهمها؛ وكما أشرت من قبل فإن جينات حضارتنا تسكن أجسادنا ولا تحتاج تلك الجينات إلا للبيب يستطيع استخراجها وتوظيفها.
كيف ترى دور النقاد والدراسات الأدبية للإصدار الجديد، هل يظهر أثرها في حركة الإبداع؟
تأثر المشروع النقدي للأسف في الفترة الأخيرة؛ وأستطيع القول إن النقد قد تخلف عن ركب الإبداع؛ ولا يعني ذلك أننا نفتقد النقاد الواعين والجادين؛ بل على العكس من ذلك توجد أسماء نقدية مهمة ولكن أثرت عليها الأزمات الاقتصادية ومعاناة العيش الكريم؛ ولأنهم بشر مثل الآخرين فقد استنزفت الحياة الكثير من أوقاتهم ودخولهم فاثر ذلك على مجمل نتاجهم؛ فسافر منهم من سافر إلى الخارج؛ ومن تبقى أرقته مشاكل العيش الكريم؛ وعلى الرغم من كل ذلك فهناك أسماء تعمل دون كلل أو ملل وأصبح لها وجودها الفاعل والراصد لحركة الإبداع أذكر منهم على سبيل المثال الدكتور يسري عبدالله؛ والدكتور شريف الجيار؛ والدكتور حسام عقل؛ والدكتور مصطفى الضبع وأسماء أخرى غيرهم، كل ذلك يجعلني مطمئناً على الرغم من بعض المعاناة التي يتكبدها المبدع في أن يصل بنصه إلى الناقد المنصف غير المجامل.
الإعلام وسيلة للتواصل؛ ما العلاقة بين الإعلام الرقمي الحديث والإبداع القصصي والروائي؟
في الشق العام عن الإعلام أقول: إذا كان الإعلام هو سلاح العصر وبه تخوض كثير من الدول حروبها الجديدة في نشر نفوذها وتأكيد ثقافتها إلا أننا حتى الآن لم نحسن استخدام الإعلام بالشكل الأمثل في توضيح رؤيتنا للآخرين؛ ولأن الإعلام صناعة مكلفة فأرى أنه بالإمكان دعم إنشاء كيانات إعلامية كبيرة وفقاُ للمستويات العلمية العالمية وتأهيل من يلتحقون بها التأهيل العصري المطلوب؛ نحن نمتلك منظومة إعلامية متهالكة ومترهلة تعمل بمنطق الكم ولا يعنيها الكيف بأي حال من الأحوال.
وفي الشق المتخصص في مجال الإعلام الرقمي أقول: ولما كان الإعلام الرقمي أحد اهم مجالات الانتشار فقد تم اللجوء إليه للاستفادة من شهرته وسهولة وصوله إلى الجماهير؛ وقد استفادت منه الصحف في إنشاء مواقعها الإخبارية مثلما استفادت منه دور النشر في توفير وإتاحة الكتب الإلكترونية للمهتمين؛ كما استفاد منه المبدعون بإتاحة الكثير من إبداعاتهم عل حساباتهم وصفحاتهم الشخصية؛ وقد أثرى الإعلام الرقمي الساحة الثقافية والإبداعية ومن خلاله تعارف وتواصل العشرات من المبدعين مع بعضهم البعض أو مع المؤسسات الثقافية على اختلاف أنواعها سواء المهتمة بالنشر أو المانحة للجوائز وغيرها؛ وهانحن قد صرنا نقرأ من خلال الانترنت أعمالاً قصصية وروائية لكثير من المبدعين؛ وهذا النوع من الإعلام سوف يتأكد وصوله إلى كافة القراء والمهتمين ويصير هو الأساس في الواقع القريب والمستقبل المنظور واعتقد ان الآليات التكنولوجية من السهولة بحيث يستطيع استخدامها الجميع على اختلاف مستوياتهم التعليمية.
ما هو الجديد الذي ينتظره القارئ المصري والعربي منك في الفترة القادمة؟
انتهيت من رواية مصنع الأصنام وهي الآن لدى الناشر وقد تم انجاز غلافها وأتعشم أن تكون بين أيدي القراء فبل أن ينتهي هذا العام، كما أنني أقوم الآن بإنجاز كتاب يمزج بين السيرة والرواية اتناول فيه محطات كثيرة في مشواري في الحياة ومع الكلمة التي تعاملت معها في شتى صورها؛ فقد تعاملت معها أي الكلمة مسموعة ومرئية باعتباري كنت مذيعاً مارست العمل الإعلامي المسموع والمرئي لمدة تزيد على الخمسة وثلاثين عاما؛ مثلما تعاملت معها مكتوبة سواء من خلال تجربتي في العمل الصحفي في مطلع حياتي أو مع الابداع القصصي والروائي المستمر حتى الآن.
التعليقات مغلقة.