بقلم : شحاتة زكريا
فاجأت الولايات المتحدة الجميع مؤخرا بمحاولة استعادة نفوذها الاقتصادي عبر ما بدا كحملة تصحيح مسار ، ولكنها –كالعادة– لم تجِد اختيار التوقيت ولا الأسلوب! فبينما كان الرئيس بايدن يستعد لخطاب اقتصادي ضخم يعد فيه الأمريكيين بـ”عصر صناعي جديد”، كانت الأرقام على الأرض تُحبط هذا الحلم ، إذ ما زالت الصين تملك مفاتيح السوق وتعرف من أين تُشعل الفاتورة.
الإدارة الأمريكية الحالية –وفي سعيها الحثيث لإثبات أن واشنطن ما زالت “زعيمة العالم الحر”– بدأت بإحياء خططها القديمة لإعادة توطين الصناعات داخل أمريكا. وهو خطاب انتخابي جذاب ، لكنه يصطدم كل مرة بحقيقة أن التكنولوجيا وحدها لا تكفي إذا كانت المواد الخام تأتينا من الصين ، والعمالة المدربة تتحدث بلغة الماندرين وسلاسل الإمداد تمر عبر شنغهاي لا شيكاغو!. شحاتة زكريا
رد الصين لم يتأخر لكنه لم يكن بالصوت العالي المعتاد. على العكس جاء هادئا كالعادة وبملامح لا تخلو من خبث ساخر. إذ بينما كان بايدن يتحدث عن تقليص الاعتماد على الصين في توريد الشرائح الإلكترونية والمعادن النادرة كانت الصين تعلن عن اتفاقات جديدة مع دول أفريقية وآسيوية لإحكام سيطرتها على مناجم الكوبالت والليثيوم. وبمنتهى الهدوء كانت الرسالة واضحة: “حتى لو أردتم الاستقلال عنا… فأنتم بحاجة إلينا لتفعلوا ذلك!”.
لكن المثير حقا لم يكن في الحرب التجارية المباشرة ، بل في ما يمكن تسميته بـ”حرب السلع الرمزية”، حين انتشرت تقارير إعلامية عن أن الأكواب التذكارية لحملة بايدن الانتخابية –التي طُبعت عليها شعارات مثل “إصنع في أمريكا” و”أمريكا أولا”– قد تم استيرادها بالكامل من الصين ومعها شحنات قهوة برازيلية تُحضر في مصانع صينية! وتحوّلت القصة سريعًا إلى نكتة سياسية عنوانها العريض: القهوة وطنية.. بس بالتعاون الدولي!”.
الإعلام الصيني التقط الخيط وبدأ حملة ساخرة بعنوان: حتى قهوتهم… نحن من نصنعها!”، وترافق ذلك مع فيديوهات قصيرة على منصات صينية تُظهر عمالا في مصانع بكين وهم يضعون صور بايدن على الأكواب ويضحكون بملء قلوبهم.
المثير أن الإعلام الأمريكي الذي لطالما برع في تصدير الإحراج للآخرين بدا عاجزا أمام هذا الكم من التهكم الصيني. فالمواجهة هذه المرة لم تكن بصواريخ ، بل بـ”سخريّة ناعمة” تفكك الخطاب الأمريكي من داخله، وتعيد توجيه البوصلة.
ولا يخفى على أحد أن الصين تحاول الآن أن تسحب أمريكا إلى ساحة جديدة من الصراع ساحة تتفوق فيها بوضوح: ساحة الإنتاج الذكي والاقتصاد التكاملي ، والشعارات المرنة. فهي لا ترفع شعار “الصين أولا” بل “العالم معنا”، وتُصدّر منتجاتها حتى في أوقات الخلاف ، لأنها تعرف أن الاقتصاد لا يعرف الأيديولوجيا بقدر ما يفهم لغة الأرقام.
أما أمريكا فرغم تاريخها الطويل في الترويج للقيم الليبرالية والاقتصاد الحر تجد نفسها الآن تُغلق الأبواب باسم “الأمن القومي”، وتحاول تقليد النموذج الذي كانت تسخر منه!
وهكذا… يجد المواطن الأمريكي نفسه كل صباح يشرب قهوته من كوبٍ صيني يقرأ عليه وعودا أمريكية ويبحث عن وظيفة في مصنع أغلق أبوابه لأنه لم يعد قادرا على منافسة نظرائه في شنجن!
ربما يكون زمن القبعة الحمراء قد انتهى ، وجاء وقت الكوب الأزرق… المصنوع في الصين.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.