زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القاهرة لم تكن مجرد مناسبة دبلوماسية عابرة ، بل لحظة استثنائية جسدت شكلا جديدا من أشكال الحضور السياسي حيث امتزجت فيها الصورة مع الرسالة، والبروتوكول مع الشارع، والتاريخ مع الحاضر.
بدا واضحا أن القاهرة أرادت أن تُقدّم نفسها على نحو مغاير ، ليس فقط أمام باريس ولكن أمام العالم كله. لقد بدا الرئيس عبد الفتاح السيسي في اصطحابه لماكرون إلى حي الحسين ، وكأنه يقدم ضيفه إلى المصريين لا العكس ويمنحه نافذة ليطل من خلالها على جوهر الشخصية المصرية ، لا فقط على هيكل الدولة.
في خان الخليلي حيث الأزقة الضيقة التي تحفظ التاريخ وتردد أنفاسه كانت الجولة أكثر من لفتة رمزية. فقد بدا المشهد وكأنه دعوة من القيادة السياسية المصرية لمشاهدة العلاقة الحقيقية بين الشعب ورئيسه في زمن تُتهم فيه الشعوب بالاغتراب عن السلطة.
أما زيارة مطعم نجيب محفوظ فكانت بمثابة إشارة ناعمة إلى أن مصر الحديثة لا تقطع صلاتها بماضيها بل تُعيد توظيفه ليكون حاضرا فاعلا ومؤثرا حتى في أكثر اللحظات السياسية حساسية.
وإذا كانت الصور التي التُقطت في الحسين قد ملأت وسائل الإعلام فإن زيارة العريش حملت هي الأخرى ما هو أبعد من الرمزية، لقد أرادت القاهرة أن تؤكد مرة أخرى أن موقفها من العدوان على غزة ليس موقفا نظريا بل امتداد طبيعي لموقعها الجغرافي ، ولدورها التاريخي ، ولمسؤوليتها الأخلاقية.
أن يصحب الرئيس المصري ضيفه الفرنسي إلى أقرب نقطة من الجرح الفلسطيني فهو يقصد أن يضع العالم أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها: أن مصر ليست وسيطا محايدا، بل طرفٌ أصيل يدافع عن استقرار الإقليم وعن حقوق أهله.
ما أعقب الزيارة من تصريحات للرئيس ماكرون عن قرب اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية لم يكن مفاجئًا بقدر ما كان نتيجة طبيعية لحوار مباشر جرى فوق أرض الواقع.
وقد سارعت الخارجية المصرية إلى الترحيب بهذه الخطوة باعتبارها إشارة إلى تحرك جاد نحو حماية حل الدولتين ، في وقت يتآكل فيه الأمل ويتسارع النزف. وهنا تثبت القيادة السياسية المصرية مرة تلو الأخرى أنها لا تكتفي بإدارة الملفات ، بل تصنع في كثير من الأحيان مسارات جديدة لها.
اللافت أيضا في تلك الزيارة ، أنها لم تقتصر على الأداء الرئاسي فقط ، بل استدعت تفاعلات من مؤسسات الدولة الأخرى ، وعلى رأسها البرلمان. فقد بادر النائب طارق شكري وكيل لجنة الإسكان بطرح سؤال برلماني يستوضح فيه كيف تنوي الحكومة ترجمة هذه الزيارة إلى مكاسب اقتصادية وسياحية واستثمارية ملموسة.
تحرك النائب شكري لم يكن مجرد تسجيل موقف ، بل تعبيرا عن وعي برلماني جديد يُدرك أن السياسة ليست مجرد بيانات رسمية، وإنما فرص يجب أن تُقتنص في وقتها ، وتُحول إلى برامج عمل وخطط تنفيذ.
لقد أظهر هذا التحرك البرلماني أن هناك إدراكا لأهمية التكامل بين المؤسسات ، وأن البرلمان لا يقف على الرصيف بل يتقدم إلى منتصف الطريق مطالبا الحكومة بالوضوح والالتزام.
وهنا تتجلى قيمة اللحظة السياسية التي صنعتها القاهرة، حين جعلت من زيارة رئيس أجنبي منصة لإطلاق رسائل متداخلة، تتنوع بين السياسي والاقتصادي، بين المحلي والإقليمي، وبين الرسمي والشعبي. لم تكتف القيادة المصرية بأن تكون الزيارة بروتوكولية عابرة ، بل حولتها إلى مساحة تفاعل حقيقية بين الشعوب ، وإلى ورشة عمل مفتوحة أمام المؤسسات المختلفة في الدولة. لقد اختارت مصر أن تستخدم أدواتها الناعمة والصلبة معا أن توظف الذاكرة والمكان والرمز ، لتقدم نفسها من جديد للعالم ، دولة لها هوية واضحة، وموقف صلب، وأسلوب مرن.
في زمن تاهت فيه البوصلة الدولية ، وازدادت فيه الضغوط على الشعوب وقضاياها العادلة، تأتي القاهرة لتقدم نموذجا مختلفا: لا صراخ ولا تهييج بل دبلوماسية واثقة ، تعرف ما تريد وتعرف كيف تُقنع الآخر بهدوء ودون ضجيج. لقد كانت زيارة ماكرون للقاهرة أكثر من حدث سياسي كانت شهادة حية على أن الصورة أحيانا أبلغ من البيان وأن التحرك الرئاسي حين يكون مبنيًا على رؤية ، فإنه يصنع تأثيرا يتجاوز حدود اللحظة ويؤسس لمرحلة جديدة من الفهم المتبادل والعمل المشترك.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.