يسري مصطفى يكتب: تراويح الأزهر تعيد مجد التلاوات المصرية
بين أروقة الأزهر الشريف، حيث تعانق المآذن السماء، وتنساب آيات الذكر الحكيم كجدول رقراق يروي أرواح الصائمين، بدأت القاهرة في استعادة ريادتها مرة أخرى في تلاوة القرآن الكريم، عبر نخبة من القراء الأزهريين الذين أضاءت أصواتهم أجواء صلاة التراويح، وأعادوا للأذهان أمجاد التلاوة المصرية العريقة.
الحكاية بدأت في الجامع الأزهر، حيث حظيت الإمامة هذا العام ببروز كوكبة من المبدعين، الذين ذكروا المصريين بمجدهم السابق في تلاوة القرآن، وأعادوا بأصواتهم تشكيل وجدان المستمعين كما كان الحال في عقود مضت، وكان لحرص الأزهر الشريف على بث شعائر الصلاة مباشرة عبر إذاعة القرآن الكريم المصرية دور بارز في هذا الحدث.
وتميزت الأصوات المصرية عبر عقود مضت ببصمتها الفريدة في تلاوة القرآن، فكانت المدرسة التي نهل منها أغلب القراء حول العالم، حيث صدّرت مصر للعالم الإسلامي عمالقة التلاوة وأرست قواعد الترتيل المتقن، مما جعلها مرجعًا لكل من يسعى إلى قراءة القرآن بإجادة وإحكام.
ولم تكن التلاوة المصرية مجرد أصوات جميلة، بل كانت هوية متكاملة تجمع بين الخشوع والعذوبة والدقة، حيث خرج من الأزقة الضيقة في القاهرة القديمة مقرئون خالدون مثل محمد صديق المنشاوي بتلاوته الباكية، ومحمود خليل الحصري، بانضباطه المتناهي في أحكام التجويد، وعبد الباسط عبد الصمد بصوته الذي يحلق في الآفاق كأنه طائر نوراني جميل، وأيضًا مصطفى إسماعيل ومحمود علي البنا وغيرهم من عمالقة الترتيل والتجويد.
إلا أنه ومع تعاقب السنوات، بدأ مشهد التلاوة يتغير في مصر، وراحت أصوات من خارج مصر تتصدر المشهد، لا سيما من دول الخليج، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، حيث برز قرّاء خليجيون كثر، أحبهم الناس وتفاعلوا معهم على نطاق واسع، في مشهد بدا وكأنه تراجع للريادة المصرية في الترتيل، حتى بالغ البعض وادعى أن “المدرسة المصرية” في التلاوة باتت جزءًا من الماضي.
لكن ومع حلول شهر رمضان الكريم هذا العام، كان للأزهر دور مختلف، حيث فوجئ المصريون بنقل صلاة التراويح من الأزهر مباشرة عبر إذاعة القرآن الكريم المصرية، تلك الإذاعة المرتبطة في أذهان الناس بعمالقة القراء، لتضج بعدها مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع من صلاة التراويح في الأزهر الشريف، تحمل أصواتًا مصرية ندية، أعادت للأذهان تلاوات المنشاوي ورفاقه، حتى ارتفع صدى التلاوات التي تمزج بين الخشوع والجمال مرة أخرى، وشعر كثيرون أن روح التلاوة المصرية الأصيلة قد عادت لتصدح من جديد.
التفاعل الواسع مع قراء ومشايخ الأزهر الشريف، دفع الكثيرين للقول بأن ما حدث لم يكن مجرد عودة أصوات القراء المصريين فحسب، بل كان إعلانًا بأن المدرسة المصرية في التلاوة لا تزال حاضرة، وقادرة على المنافسة واستعادة دورها الريادي، وأن الأزهر، الذي ظل لقرون منارة العلم والدين، أثبت مرة أخرى أنه قادر على بعث روح التجديد، ليس فقط في الفقه والفكر الإسلامي، ولكن أيضًا في تلاوة القرآن الكريم، وهو ما يحمل في طياته رسالة مفادها أن الريادة لا تُمنح بل تُستعاد، وأن الأزهر حين يصدح، فعلى الجميع أن يعلم أن مصر لا تتلو فحسب، لكنها تقود.

التعليقات مغلقة.