Take a fresh look at your lifestyle.

مصطفى نصار يكتب: فناء الحب.. برود العلاقات العاطفية يجسد حرمان حديث

12

بقلم – مصطفى نصار

يرتبط الحب دائمُا بالعاطفة الجياشية والمشاعر الحية التي تلتصق بالمشاعر الإيجابية و الجيدة ، كما هو مشاع ، و لكن الصورة التاريخية تختلف عن هذه المثالية و الوردية المرسخة عبر عقود طويلة ، ليس فقط لإن التاريخ لتلك التفصيلة المشاعرية مخالف لتربيتنا المخلوطة و المشوهة ، بل أيضًا لإنه مرتبط في أغلبه بالرذائل و الموبقات القذرة المرتبكة باسمه منذ اليونان حتي اللحظة الفرويدية التي أسهمت في تحول العالم أجمع لما يقارب المكب الكبير للتفريغ اللحظي ، مع التوريط المرتبط بنهايته في العصر الحديث والحالي.

فتتأخذ بداياته عندما وجد الإنسان اليوناني نفسه انحرف عن المسار السوي للمشاعر لتجسيدها و تحويلها الجذري بحسب الألياذة و الأوديسيا و أنساب الآلهة لهوميورس و هيردتنونت الذين ألفا أساطير شاعرية خطفت القلوب و العقول بشدة ، فزوجت الآلهة و أنجبت مثل أثنيا و هيدرا ، و فينوس التي ساهمت في التقاء الأحبة وصولًا لإحياء التماثيل مثل قصة بجماليون الشهيرة محب منحوتته جالاتيا ،الأمر الذي جعل الكاتب الشهير جوزيف كامبل في كتاب البطل بألف وجه أن التركيز العاطفي جعلها أسطورة متكاملة الأركان ، مما أدى لتمركز المجتمع حول الدفء الحر ، لكنه انهار في نهاية المطاف.

و مع نهاية الحضارة اليونانية، شهدت عاطفة الحب و العشق انحرافًا صريحًا حيث تدهورت الأوضاع الفكرية ، و الاجتماعية لعدم وجود المعايير المؤطرة التي تحدد الكيفية التوضيحية للتنظيم و إدارة المشاعر بطريقة تحافظ على صلابة و قوة العقد الاجتماعي الضامن لمستقبل مزدهر أو تقدم منوالي بتعبير ول ديورانت المؤرخ الأمريكي الشهير في موسوعة قصة الحضارة.

و لعل تلك الرؤية المنحرفة هي من جعلت الفن الأشهر عند الرومان المسرح العاري الذي يجسد الحب لكنه غزيزي بشع لتطرفها اليميني ، و أثر تراث الزندقة المغلوطة التي أكملت معهم حتى ظهور المسيحية المبكرة بعدما أصبح زنا المحارم و اختلاط الأنساب شائعًا ، جاعلًا أستاذ الآثار الموسوعي إيان موريس جعل يصف الحب لدى الرومان بأهمية الحرب مع جيرانهم مثل اليونان و البلقان و فينقينا التي جسدت آلهة الحب و الحكمة ، مع دخول الرومان في المسيحية بقيت تلك المنظومة القيمية حتى وقعوا الفلاسفة و علماء اللاهوت المسيحين على رأسهم توما الأكويني الذي أخرج الحب لمرتبة سامية للغاية لا تتسق مع طبيعية البشر ، مؤكدًا أن الحب الأدمي الذي وجه لغاية أرضية مشوه و مبتور عن الواقع مخالفًا بذلك حتى معلمه الكبير ألبرت الخامس الذي اعترف بنوعي الحب الأرضي و السماوي ، و الذي يعترض تمام المخالفة مع الرؤية الإسلامية لمفهوم المودة اللطيفة و الظريفة الذي وصفها الفقيه ابن حزم الأندلسي في كتابه طوق الحمامة في الألفة و الآلاف “بأنها طريقة طيبة لعلاج  و تطبيب “مشاكل و عورات الكوكب البائس ، معليًا أن قيمة الحب الإلهي تعجز الصعائب و تذيب المعوقات ، و خاصة الحب الخالص لله وحده بتوازن و انضباط .

طبعًا تعد هذه الأفكار بعيدة عن المادية الفادحة مع مراعاة أمور النكاح و فقهه ، حتى هلت الحداثة الجنسية فأحدثت زلزلًا مدويًا في مفهوم الحب البشري، جعل المفكر الاشتراكي سلامة موسى في كتابه الحب في التاريخ أن النظرة الفرويدية قلبت الرؤية رأسًا على عقب لا لشيء إلا أن ضخمت الدور الجنسي في الحب، متعاليًا العرش على المعنويات ، متتمًا النهاية و بداية المسمار الأخير في نعش الحب .

الحب الحداثي.. من الرومانسية الاستحواذية حتى الهشاشة السائلة

أحدثت نظرة فرويد زلزلًا مدويًا غير معالم الهوية العاطفية ، و الجنسية ، ليس فقط على واقعه المعاصر بل تخطى أيضًا مرحلة الفرد ليخرج بنظرة جنسية حولت العالم لقطيع إما من البهائم المصابة بعقد أوديب و الكتيرا ، أو شواذ و منحرفين جنسين فضلًا عن اختلال الهوية الثابتة للوعي الإنساني في الغرب ذاته ، محيرًا بول هزار نفسه في كتابه تاريخ الوعي الغربي في القرن العشرين ، طارحًا أسئلة ملحة مثل ماهية الحب العذري و ثبات العلاج ليظل أسئلته معلقة هكذا مثلها مثل الريشة الثابتة في ذيل الطيور حتى بدايات الألفية الجديدة على يد زمرة من علماء الاجتماع و الفلاسفة المخضرمين مثل زيجمونت باومان و إيفا إيلوز ، و علماء نفس فخرين مثل آن ريغتز ، و حنة أرنت في كتاب وحيد من مجمل مؤلفات كلا منهما ، مجمعين كلهم على أمر واحد ، فاتحين المفاجأة للجميع ألا و هي فناء الحب للأبد ، و تحوله لما يشبه إما التجارب السامة أو المحطمة للذات .

عزز التحطم النفسي الفارق أمرين غياب المرجعيات الصلبة ، و الشيوع المفتوح لفكرة الحرية المطلقة التي جعلت الحدود البشرية ذاتها محض خيال عبثي ، بل إن فوكو نفسه أكد في سلسلته تاريخ الجنساية أن الإنسان نفسه مجرد اختراع أغلبه “مسيطر عليه من السياسة الحيوية “، كاسحة الماهية الشاملة السامية للفرد لتتحول لمجرد إما سلعة مؤقتة أو سكين جارح ينبغي تجنبه خالقًا مفارقة متناقضة مفادها “أحب ما تعلم أنه سيؤذيك “.

يزيد زيجمونت باومان على تلك المفارقة المفصلية معضلة جديدة مفادها هي أن العلاقات تفككت بفعل الحداثة الأوربية و ما بعد الحداثة التي حطمت الفاعلية المجدية حيال جدوى الحب ذاته ، أو ما أسمتاه الفيلسوفة الفرانكوصهيونية إيفا إيلوز في كتابها نهاية الحب بالنهاية المدوية ، أو تحولها لعلاقة جافة رتيبة كعقد البيع و الإيجار بل إن العوامل التعاقدية قد تتحول لمعاول هدم قاسية و تجدد خطورتها المحققة .

و نشأ نتيجة التراخي و السيولة المتعمدة على المستوى الاجتماعي ، والسياسي ، و حتى الأكاديمي ، نشأ توجهات من اليسار اللبيرالي الذي طالما أكد على حيوية و أهيمة فرويد في تأسيس العقد النفسية ، مثل جاك لاكان صاحب نظرية اللبيدو التي أكدت أن الجانب الجنسي للطفل مؤثر عليه بدرجة مزلزلة تنتهجه للتقرب التعلقي بمن تحب ، أي بعبارة أخرى يعد الجنس عبادة مقربة لمن يختاره قلبه و يرتاح له فؤاده ، و من هذه النظرية شبه المنطقية نشأ اليسار الفرويدي ، و سيكولوجية العلاقات الحميمية .

و للمفاجأة ، تطورت العاطفة السائلة لتتبلور على تطبيقات المواعدة ، و الإباحية الساقطة التي لا تلزم المرء بحب طويل الأمد ، بل في علاقات البعد الواحد غير الملزمة الجارفة، مما ينقل الحب الأدمي لحب يشبه الكلبين في وسط العالم اليوم مما يربو بالنفس الحالية للوقوع في وحل الهشاشة المشاعرية ، لافتًا انتباه البروفسور المشهور في الفلسفة ستفيان أسما و رامي جابريل في كتابهما العقل الانفعالي إلي أن العاطفة الحديثة “تتمتع بضعف متعدد الأبعاد “، أي بعبارة أخرى انتقل الحب من عاطفة بناءة تشيد عليها حيوات كاملة ، لسلعة دائمة أو علاقة صعبة لما يكتنفها من معايير صامدة مع السؤال الحقيقي الذي يلوح في الأفق ألا و هو “كيف نؤسس المودة ؟”.

الحب المسؤول :المودة الحقيقة ممهدا لحياة ناجحة .

يفعل الحب الحقيقي النقي الخالي من النزوات المخلة المعجزات ، فهو المفتاح الشارح ، و الفهم الشامل لكل تفاصيل و احتمالات حقيقة مثمرة تبني على أساسها الصلب و الأساسي حياة ناجحة ذات مغزي و معنى كبير يكفل الأفراد ، و يضمد جروح و ضعف المجتمعات،  و لهذا يسميه المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري البعد الوجداني الإنساني متعددة أغراضه بين الإصلاح الاجتماعي و التكافل و اللحمة التي تبني قاعدة اجتماعية يرفع عليها في بعد مخترق للطبقات و الأعمار المختلفة .

أما فيما يتعلق بالرومانسية فيحتاج إلي التنظيم و الإدارة الفعالة مخافة ألا ينحرف أو يشقق المعهود و يدخل في خانة الخرافات المهشمة للعاطفة ، مؤديًا بذلك لتفسخ كامل و صدمة نفسية ، و لهذا لابد وفقًا للدكتور مصطفى محمود استبدال مفهوم الحب بالمودة حتى لا نكون فريسة لمشكلته العجراء بالقصر و الوقتية التي لا تدم إلا قصيرًا غير  الأزمات المعرقلة المادية مثل التفاوت الطبقي ، و العلاقات غير السوية مع بعضهما البعض ، و عدم التفاهم مما يخرج جيل مشوه إما بعيد عن المعايير المنضبطة للحياة أو رعونتهم البالغة في مواجهة و صد الأزمات المركبة و المعقدة التي تتطلب رعاية قوية من شأنها نشأة جيل صالح .

فعصب المودة القرآنية توزان معتدل و ضبط متكمل تجعل الحياة قابلة للحياة ، القابلة للاحتواء المحب ، و النضج الذي يصل للقلب ، فالمودة حب أصيل صافي جنابته الصفاء و النقاء المنطلق ، الذي ينتهى بتناغم واقعي قائم على التضامن الأسري و التفاهم الودي ، و الاحترام المتبادل المفقود ، الذي يؤسس للتكافل و التوازن ، ليست قائمة فقط على التعاقدية المحضة و الفردانية المخربة التي دمرت جزءًا كبيرًا من الحس الفطري التلقائي الناقص لأسباب كثيرة ، في أغلبها مصطنعة أو مضخمة نظرا للتجريف العاطفي و الديني الممارس على مدار عقود .

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.