Take a fresh look at your lifestyle.

بهجت العبيدي يكتب: حادث السويد الدامي

20

بقلم بهجت العبيدي

في مشهدٍ مأساويٍّ جديدٍ، امتدَّ شبحُ العنفِ ليطالَ الأبرياءَ في السويد، حيثُ قُتلَ عشرةُ أشخاصٍ في اعتداءٍ مروِّعٍ استهدفَ مركز “كامبوس ريسبيرغسكا” التعليمي للكبار في مدينة أوريبرو. نفَّذَ الهجومَ رجلٌ يُدعى ريكارد أندرسون، وهو سويديٌّ يبلغُ من العمرِ 35 عامًا، كانَ يحملُ تراخيصَ لعدةِ أسلحةٍ ناريةٍ، حيثُ استخدمَ ثلاثَ بنادقَ وكميةً كبيرةً من الذخيرةِ في جريمتهِ المروعة.

كانَ بين الضحايا أشخاصٌ فرُّوا من ويلاتِ الحربِ في بلادِهم بحثًا عن الأمانِ والاستقرار، فإذا بهم يواجهونَ حربًا أخرى، هذه المرَّةَ ليسَ على أرضِ أوطانِهم، بل في البلادِ التي ظنُّوا أنَّها ستحتضنُهم وتمنحُهم حياةً هادئةً بعيدةً عن الخوفِ والدمار. من بين هؤلاءِ الضحايا كانَ سالم كريم إسكيف، وهو شابٌّ سوريٌّ يبلغُ من العمرِ 28 عامًا، كانَ يدرسُ التمريضَ ويحلمُ بمستقبلٍ جديدٍ في السويد. قبلَ وفاتهِ بلحظاتٍ، أجرى مكالمةَ فيديو معَ خطيبتِه ليعبرَ لها عن حُبِّهِ، وليطلبَ منها أن ترعى والدتَهُ إذا حدثَ لهُ مكروه.

لكنَّهُ لم يكن يدري أنَّ هذه الكلماتِ ستكونُ آخرَ ما ينطقُ بهِ قبلَ أن يُردى قتيلًا برصاصِ الكراهيةِ والتطرُّفِ.إنَّ النفسَ البشريةَ وِعاءٌ يمكنُ أن يُملأ بالمحبَّةِ والتسامحِ كما يمكنُ أن يُحشَى بالكراهيةِ والبغضاءِ، وهذه الحقيقةُ وحدَها كفيلةٌ بأن تجعلَنا ندركُ خطورةَ الخطابِ الذي يُغذِّي العداءَ بين البشر. فمسلسلُ العنفِ لا ينتهي إذا بدأ، بل يدورُ في حلقةٍ ناريةٍ مفرغةٍ من الفعلِ وردِّ الفعلِ، فلا ينتهي إلا بتدميرِ المجتمعاتِ وإغراقِ العالمِ في المزيدِ من الصراعاتِ والدمار.

صعود اليمين المتطرف.. تهديدٌ للمهاجرين وللنسيج المجتمعيإنَّ هذه الجريمةَ البشعةَ لا يمكنُ فصلُها عن موجةِ التطرفِ اليمينيِّ المتصاعدةِ في أوروبا وأمريكا، حيث أصبحَ خطابُ الكراهيةِ ضدَّ المهاجرينَ أكثرَ انتشارًا، وتحوَّلَ من مجردِ شعاراتٍ سياسيةٍ إلى أفعالٍ عنيفةٍ تهدِّدُ أمنَ الأبرياءِ واستقرارَ المجتمعاتِ.

لقد ساهمتْ عواملُ متعدِّدةٌ في تعزيزِ نفوذِ التياراتِ اليمينيةِ المتطرِّفة، من بينها الأزماتُ الاقتصاديةُ التي زادتْ من مشاعرِ الغضبِ الشعبيِّ تجاهَ الأجانبِ والمهاجرين، بالإضافةِ إلى انتشارِ نظرياتِ المؤامرةِ وخطاباتِ الكراهيةِ التي يروِّجُ لها بعضُ الساسةِ والشخصياتِ الإعلاميةِ المتطرِّفة. كما لعبَ الخوفُ من التغيُّراتِ الديموغرافيةِ والثقافيةِ دورًا كبيرًا في تأجيجِ هذا الخطابِ العدائيِّ، حيثُ يروِّجُ المتطرِّفونَ لفكرةِ “الاستبدالِ العظيم”، وهي نظريةٌ مؤامراتيةٌ تدَّعي أنَّ المجتمعاتِ الغربيةَ يتمُّ “استبدالُ” سكانِها الأصليينَ بالمهاجرين، مما يزيدُ من العداءِ ضدَّ الأجانبِ ويبرِّرُ العنفَ ضدَّهم.

إنَّ استمرارَ تمدُّدِ هذهِ الأفكارِ قد يؤدِّي إلى مزيدٍ من الأعمالِ العدائيةِ ضدَّ المهاجرين، الذينَ لم يتركوا أوطانَهم إلَّا هربًا من الحروبِ والفقرِ، بحثًا عن فرصةٍ لحياةٍ آمنةٍ وكريمة. وإذا لم تتكاتفِ الحكوماتُ والمجتمعاتُ لمواجهةِ هذا المدِّ الخطير، فقد نشهدُ تصاعدًا في الهجماتِ العنصريةِ والجرائمِ القائمةِ على الكراهيةِ، مما يهدِّدُ الأمنَ الاجتماعيَّ والاستقرارَ في الدولِ الغربيةِ نفسِها قبلَ غيرِها.

إنَّ الإرهابَ لا يقتصرُ على منظومةِ قيمٍ بعينِها، بل هو مرضٌ فكريٌّ يمكنُ أن يُصيبَ أيَّ مجتمعٍ وأيَّ أيديولوجيا، مهما ادَّعى أصحابُها أنَّهم بلغوا قمةَ التطوُّرِ الأخلاقيِّ ويحاولون فرضَ منظومتِهم القيميةِ على العالمِ بأسره. فكما ندينُ التطرُّفَ والإرهابَ الإسلاميَّ، فإنَّنا ندينُ بنفسِ القوَّةِ الإرهابَ أيا كانَ مصدرُهُ، وخصوصًا تطرُّفَ ما يُسمَّى بالإرهابِ الأبيضِ الذي يتغذَّى على العنصريةِ وكراهيةِ الآخر.العالمُ يحتاجُ إلى التعايشِ وليسَ التصادمإنَّ العالمَ اليومَ أحوجُ ما يكونُ إلى قيمِ التعايشِ المشتركِ والمحبَّةِ والتسامحِ، لا إلى مزيدٍ من الانقساماتِ والصراعات.

فالعنفُ لا يولِّدُ إلَّا العنف، والتطرُّفُ لا يُنتِجُ إلَّا مزيدًا من الدمارِ والكراهية. وإذا كانَ الإنسانُ قد بلغَ قمةَ التقدُّمِ العلميِّ والتكنولوجيِّ، فما زالَ في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى ثورةٍ أخلاقيةٍ تُعيدُ للقيمِ الإنسانيةِ جوهرَها الحقيقيَّ، حيثُ لا مكانَ للتمييزِ على أساسِ العرقِ أو الدينِ أو الأصلِ الاجتماعيّ.إنَّ من حقِّ كلِّ إنسانٍ أن يعيشَ بكرامةٍ وأمان، بغضِّ النظرِ عن خلفيَّتهِ الثقافيةِ أو الدينيةِ.

ومن واجبِ الحكوماتِ والمجتمعاتِ أن تعملَ على تعزيزِ ثقافةِ التقبُّلِ والاحترامِ المتبادل، والتصدِّي لخطابِ الكراهيةِ والتطرُّفِ الذي يهدِّدُ أمنَ الجميعِ وسلامَهم. كما أنَّ من مسؤوليةِ العقلاءِ في كلِّ بقاعِ العالمِ أن يعملوا على استمرارِ رُقيِّ الإنسانيةِ، وألَّا يسمحوا بعودةِ الأفكارِ المتطرِّفةِ التي كانت سببًا في العديدِ من الحروبِ والمآسي عبرَ التاريخ.إنَّ العالمَ لن يكونَ مكانًا أفضلَ بمزيدٍ من العنفِ والكراهيةِ، بل بالعدالةِ والتسامحِ والتآخي. تلكَ هي القيمُ التي يجبُ أن نسعى لإرسائِها، ليسَ فقط لحمايةِ المهاجرينَ واللاجئينَ، بل لحمايةِ إنسانيتِنا جميعًا.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.