Take a fresh look at your lifestyle.

مصطفى نصار يكتب: التعفن العقلي.. مصطلح جديد يجسد المصيبة الحديثة

17

بقلم – مصطفى نصار
أثير الجدل مؤخرًا حول مبدأ غريب انتشر في الشرق والغرب، حين أطلقت جامعة أكسفورد مصطلح “تعفن الدماغ”. عرّفت الجامعة المصطلح بأنه الاستهلاك المفرط للمحتوى التافه، الذي يؤدي إلى استحواذ شامل على حياة المرء حتى تُدمر حياته بتدمير العقل والإدراك. يصل هذا التدمير إلى أقصى درجاته فيما يُعرف بـ”المصفاة الذهنية”، التي تعمل على حشو العقل بالترهات والهراء، ليصبح المرء خادمًا للتفاهة، بل وربما نجمًا فيها. فالملتقي، كالمحرر الأهوج، يبحث عن لقطات سريعة ترضي شهواته العاجلة وتعالج نقصه المزمن.
 
 
هذه الظاهرة تُغذي الرأسمالية وتتحالف معها، إذ تُحوّل التفاهة إلى سلعة ثمينة مقابل جمهور أصبح عبيدًا للتلوث الفكري والتفاهة السوقية.
 
 
وفقًا لآن دونو في كتاب نظام التفاهة، فإن المشكلة لا تكمن فقط في استغراق الأشخاص السطحيين وقتهم في إنتاج محتوى تافه، بل في “التفاني المتنامي” لتحقيق صورة زائفة من الاكتمال. هذا يعكس حالة من استهلاك “التعفن الدماغي”، كما يظهر في تطبيقات التواصل الاجتماعي، وأبرزها تيك توك. تشير هذه التطبيقات إلى سمات العقل الانتحاري، كما يصفه جيل ليبوفتسكي في كتابه المشترك مع إلييت رو الترف الخالد. ملء الفراغ الروحي بمحتوى تافه هو عملية تثبيت لدعائم استهلاك مفرط يقوّض الإنسان كليًا.


بعد مرحلة “التعفن الأبدي”، تأتي عملية إعادة صياغة ممنهجة للعقل عبر حشو الأفكار المدسوسة التي تهدف إلى التثبيط والهدم الكامل، كما أشارت الدكتورة فرانسيس جنسن في كتابها عقل المراهقين.
 
 
الدائرة المغلقة لهذه الظاهرة تعزز جذورها اجتماعيًا، وتدفع الشركات إلى الاستثمار فيها لتحقيق الأرباح. وهنا، تكمن الفتنة الكبرى ليس في الأجهزة أو التطبيقات ذاتها، بل فيمن يبتكرها ويستخدمها. هذه التقنيات تتمتع برونق زائف، لكنها تخفي خدعة نفسية تهدف إلى تحقيق مكاسب مادية فقط.
 
 
في كتاب حضارة السمكة الحمراء، يندد عالم النفس الاجتماعي باريت روبينيو بآثار “التعفن الدماغي”، حيث يؤدي إلى قصر الانتباه وهشاشة النفس، مما يجعل الفرد عرضة للفناء البطيء تحت سيطرة المحتوى التافه.
 
 
إن السمة الأساسية للسفهاء وأصحاب العقول المتعفنة هي العزلة التامة عن المجتمع، مع إعادة صياغة التفاهة على أنها نجاح وتأثير. وكما أشار مصطفى الزراق في كتابه التتفيه والتجهيل، فإن الامتثال لهذه الترهات يحقق مقولة أرسطو حول نهاية العالم على يد فاقدي العقل.
 
 
جامعة أكسفورد أكدت في موقعها أن مصطلح “تعفن الدماغ” ليس جديدًا، لكنه يحمل أسماء أخرى لم تعبّر بدقة عن هذه الظاهرة. فالتعفن هنا يعزز أمراضًا نفسية وعقلية مثل الاحتراق النفسي والوظيفي، مما يحوّل الإنسان إلى ما يشبه، في وصف أمبرتو إيكو، “فيالق الحمقى”، وهو ما يعكس حالة التفسخ والتشرذم العالمي.
 
روبولوكس وتيك توك.. عندما تتربح من مصائب الناس
 
في كتاب تدليل العقل الأمريكي،  يربط الباحثان في علم النفس الاجتماعي كريج لوكونوف و جوناثان هيث أن العقل يلزم له الإجهاد و العمل للمضي قدمًا ، و هو غير مألوف من العقلية الأمريكية المدللة ، التي ترى أن السعادة تتعلق بالأحلام الشخصية بمثابة الحقوق و الواجبات التي تقدمها الشركات الكبرى ، و على رأسها شركتي روبلكس و تيك توك ، التي تلعب بعقول العالم بكل خبث ووقاحة ، ليتحقق في نهاية المطاف المثال القائل أن مصائب قوم عند قوم فوائد ، لإنها تسحب بذلك قدراتهم العقلية و تحولهم لعقول ذات طابع اسفنجي استهلاكي ، لتحقق بذلك أرباح خرافية على حساب الانتباه و الذاكرة عبر منظومة من أربعة خطوات .
 
تتخلص الخطوة الأولى في جذب الانتباه و استخدام علم النفس السلوكي ، الذي عبر عنه التطوري جاد سعد في كتابه العقل الطفيلي الذي يعبر عنه ذلك الأزمة التطورية المتعاملة مع العقل باعتباره فقط آلة للتكيف مع الواقع ، ليس أكثر ، و تنتهى الخطوة الأولى حينما يبسط النظام الخاص باللعبة أو التطبيق سيطرته على وقت المرء ،و هنا تأتي المرحلة الثانية التي تهيأ الفرد لإن يخصص وقت أكبر لصالح الاستهلاك المفرط لتتحول من سلوك لعادة و من عادة لإدمان ، و بهذا كما يقول الخبير و المحلل النفسي لإري روزين أن التشتت الإلكتروني “إدمان ذا وتيرة هادئة “.
 
لتدخل للمرحلة الثالثة التي تسمى بالاستهلاك شبه الشامل partial consumption ،و هو سعى ينتهجه الفرد لإحزاز التقدم المأمول إما في اللعبة (روبولكس )أو في التطبيق (تيك توك ). و في اللحظة الذي يحقق المرء الأمل المنشود في تلك التفاهات ، يدخل بمنتهى الأصالة و السهولة للمرحلة الرابعة” المعنى المفقود “كما يسميه الباحث أولفير ساكس ، و هي مرحلة يكون اللعب في حد ذاته غاية و ليس وسيلة للمرح، و بالطبع لن يتم التخلص منه بسهولة بمجرد الرغبة الشخصية،  لإن بذلك قد تكون حطمت الشركة و موظفيها ، لكن يحتاج لتعديل سلوكي أو علاج لإدمان الإلكترونيات يستغرق سنوات طويلة .
 
 و لإعطاء صورة كاملة عن جدوى هذه العملية ، لك فقط أن تقرأ أرباح الشركتين المذكورتين في التقارير السنوية لكلا منهما : تجاوزت أرباح تيك توك الملياري دولار في السنة ،و هذا أكبر من الناتج المحلي لدول مثل المغرب و لبنان ، أما روبلكس فتجاوزت أرباحها السنوية ال ٨ مليار دولار نظرًا لعدد مستخدميها الضخم الذي  يصل ل٨ مليون مستخدم و لاعب شبه يومي . يعطي هذا الانطباع مدى منعة و جدوى الاستراتيجة السلوكية التي تسببت بمصائب كبرى مثل الانتحار و الزهايمر لدرجة جعلت دراسة من جامعة أكسفورد تشير إلي أن معظم الأزمات النفسية من الانتحار و تعفن الدماغ تمتد لجوانب أخرى من الحياة كالأسرة و العمل .
 
علاوة على ذلك،  تربط الدراسة بين الجودة للحياة عامة ، و العمل فضلًا عن التخبط و قلة التركيز و الخمول ، و لعل تلك الحالة هي ما عبر عنها المنظر الاقتصادي الماركسي يانيس فايفيكس باقتصاد الانتباه المتسلب الواقع ضمن الاقطاعية التقنية التي لا تبحث إلا عن الإرباح و المكسب ، مع اختلاف جوهري أن هذا الإقطاع تحول لإقطاع تكنولوجي بعدما تمركز في يد الشركات المحتكرة لها ، ليغلق الصفحة بسؤال سهل ممتنع :متى ستكف الرأسمالية عن الاستفادة من آلام و معاناة الآخرين؟! ، لتتبلور الحقيقة بنفيها القاطع و البات في الأمر .
 
ولا يتوقف الموضوع عند الاستفادة و التربح من الأزمات،  بل تمتد لصناعة الاستمرارية و ديمومة الأزمات عبر العديد من الإجراءات الجذابة و المشدة للانتباه و المثبتة له ، فضلًا عن التحديثات المستمرة بغرض القضاء على الصعوبات المستمرة في اللعبة أو التطبيق لإنها تجارية و ليست لعبة ذكاء تعتمد في الدرجة الأولى ، و بث شعور امتلاء زائف و طمأنينة كاذبة تعمل فقط على التخدير ، و القنوط . و يتحول اللاعب لمجرد سلعة في حد ذاته بحق و يتمركز بذلك حول اللعبة أو التطبيق، ليسطحوا و تتحول مصائبهم المعقدة و الصعبة لفوائد و أرباح كبيرة .
 
 
و يضيف خبير التسويق معاذ يوسف أن تلك المنصات من هدفها التسمر ، و التثبيت التي تهدف لتحول التطبيق لأزمة في حياة المرء ، فضلًا عن تجذرها و يفضل تحويلها لمتلازمة نفسية لها كل أبعاد المتلازمة ، و كل نتائجها المأزومة و تتخطى لطرق التداوي و العلاج ، و هذا ما جعل الصحفي و الباحث الإلكتروني بن وايت يؤكد أنها تطبيقات كاسرة للأخلاق محطمة للقيم ، و هذا ما يحقق السبيل الحتمي لنظام الميدقراطية التي تحدث بجعل التقنية و الإعلام المسموع وسيطًا للمعرفة أو أساسًا لها ، و تحول الأكثرية لمصدرية معرفية لا تعلو عليها بل تجعل القول للكثرة المعلوماتية لا للجودة و الرصانة المعرفية .


 عصر الفراغ و الثقافة السائلة.. الغثايئة المعرفية و الإدراكية هدم للمعرفة العقلية .

تخيل معي الموقف الآتي :أنك في منزل قارئ ثم قال لك قريبك أنك ليست بمثل ثقافته لمجرد أنه شاهد مقاطعين فيديو أو شاهد أفلام وثائقية و أخذ يتفاخر و ينظر عليك بالمعلومات أو يدهشون بالكم الهائل من المعلومات باعتبارها قيمية أو ثمينة ، لكن في حقيقة الأمر هذا المثال لا يعبر عن عصر الفراغ و الخواء المعرفي و المهاراتي الذي ساد ، وفقًا للفيلسوف جيل لبيوفتسكي في كتابه عصر الفراغ ، بعد الانهيار المدوي للمعرفة الصلبة بمصادرها الأساسية والمتكاملة ، فالتحول الذي طرأ أن المعرفة أصبحت مفرغة من كل قيمة ، و حتى معايير تمييزها ، فكان لابد من استبدالها بالتفاهة والتجهيل لاستمرار العمل الرأسمالية .

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.