من الثبات للسيولة.. مختصر تاريخ الأسرة
كتب/مصطفى نصار
الأسرة وحدة بنائية للمجتمع ،فهي تبني الفرد نفسيا،و اجتماعيا ،و تربويا. فهي تجعلك الفرد المتطور وذو المهارات والمفكر والعالم، و هنا يتنج سؤال ملح ،و هو كيف نستثمر أسرتنا إنسانيا،أو كما قال د.عبد الوهاب المسيري بناء النموذج الإسلامي للأسرة.
و تكمن المعاملة السيئة في طرفين،الأهل ،و الأطفال،أو الشباب.فوفقا لتقرير الباورمتر العربي لعام ٢٠١٩ ،فقد تراجعت نسبة التدين ،و العلاقات الصلبة بين الأسر بنسبة ملحوظة تصل ل٢٥%.مما يتركنا في حيرة ما علاقة الأسر بالتأسيس الديني ،و الفلسفي .و هل يمكن لأسرة ما أن تكون الإنسان الدابة،أو المادي؟
تأريخ الأسرة من اليونان للقرن السادس عشر
الأسرة في الحضارة اليونانية هي أفراد ،و تتحلى بالقداسة بحسب نسب أولئيك الأفراد ،و قربهم من الحاكم، أو الولي لأن كان وليا عينته الآلهة الاغريقية ،أو توج من الآلهة بتعبير جوزيف كامبل.و هذا الأمر أيضا ينطبق على بقية الحضارات القديمة من الصين،و اليابان ،و ماوراء النهرين.
و هذا الأمر قد اختلف بسبب ظهور اليهودية فعرفت الأسرة ،و الأفراد بأنهم أفراد تجمعهم المسؤولية ،و الواجب. مع ظهور النصرانية، قد اختلفت مفهوم الأسرة لظهور فكرة الحق الفردي،و تطورت الفكرة حتى وصلت للعمل ،و المجتمع. فأصبح المجتمع ذا قواعد صلبة لها مرجعية.فجاء الإسلام فرسخ تلك القواعد، و أوضح دور الأب ،و الأم ،و الأفراد كل منهم.
الأب يتولى النفقة ،و الأم التربية لحين نضوج الأفراد، و اعتمادهم على نفسهم بشكل يناسب البنية النفسية ،و الاجتماعية للطفل .
مع صعود عصر النهضة ،لم تمس فكرة القديسة حول الأسرة يخبرنا هارفي كوكس بأن الأسرة كانت محمية من قبل الفكرة الدينية.
و هو ما أكده أيضا ابن حزم باعتباره أن أي جماعة لها رأس تكون تسير بطريقة صحيحة.و مع نزعة العقل و تأليه الإنسان، ظهرت المحاولات لاعتبار الأسرة حاجز لحماية المجتمع.
و لكن في القرن السادس عشر ،نشرت ماري ورتلفريت ،و يعتبرها البعض أساس للحركة النسوية بشكل الطبيعي. و ورتفلريت رغبت في الحق الطبيعي للتعليم ،و الصحة . و هكذا أخذت الأسرة منحاها الطبيعي للقرن ال١٦.و لكن ما حدث للأسرة ،و تغييراتها كان جذريا .و هو ما سيترك أثاره على القرنين التاليين .
ما الذي حدث للأسرة من تغيير مفهومها ،وما وظيفتها بعد القرن السابع عشر ؟
فبعد أن كانت أسرة مقدسة،و ممتدة أضحت ذرية ، و هامشية .
و لعل جوزيف مسعد أستاذ السياسة، و تاريخ الفكر العربي بجامعة شيكاغو يجيبنا على هذا بأن الأسرة أضحت بهذا الشكل بسبب الادانات الغربية لشكل الأسرة، و الحركات الفكرية التى جعلت العرب يبحثون عن مرجعية أخرى لبناء أشكال جديدة من الأسرة . و لكن ما هي تلك الأشكال ،و لم انتشرت بهذه السرعة .
تتشابه شخصية حزلقوم في الكبير في التجريب المستمر لأنواع الأسر بزواجه من سيدات من مختلف التوجهات .و ما لا يختلف عليه هنا هو الاختلاف ،و الاجتماع على تغير المفهوم ،و النواة التي تبني المجتمع .و من هنا،يمكننا رؤية الأسرة الممتدة بصفتها الأسرة المتجذرة للفرد ،و التى تمتد لتشمل عائلتي الأب و الأم والطفل.
وهكذا كانت الأسرة في الغرب .و يخبرنا المؤرخ اريك هويزناوم أن الأسرة تغيرت بفعل عصر التطرف بالقرن العشرين .
والقرن العشرين في رؤيته هو بمثابة تطور مركب لأنواع عدبدة من التعصبات ،و التطرفات،فهو يشمل الحروب ،و الأفكار التمركزية. فوفقا للمسيري، نقل التمركز من الاله للإنسان .و نتجية لهذا التمركز ظهرت الفاشية ،و النازية ،و الاستعمار.فانتقل التمركز من العرق للجنس .
ومن الجنس للفرد.فجعل التمركز الأسرة تتحول للأسرة الذرية.الأسرة الذرية التى يعرفها د.جاسم الهزاع بأنها الأسرة التي تتكون من أفراد فقط دون التمدد، و الاتساع التي كانت تتمتع به الأسرة
الممتدة .و ما يميز القرن العشرين هو أن النصف الثاني منه ظهرت حركات النقد للفكر الغربي السائل .
ما حدث للأسرة في النصف الأخير من الفرن الفائت هو أن فتحت مفاهيم لتشمل أسر عديدة. فبحسب باومان أضحت ما بعد الحداثة حداثة سائلة .
و تضحى القيمة صفرا .و هذه القيمة الصفرية بحسب راي الطيب بوعزة أنها اختزالت القيم بأوراق البنوكت .و هذا حقيقي لسبب بسيط ،و هو أن الأسرة انتقلت من موقع القداسة لموقع السوق.و هذا السوق الرأسمالية هي التي جعلت الأمهات ،و الأباء ينصرفون عن كثرة الإنجاب .
يوضح لنا المؤرخ الأمريكي جون ديمليو أن هذا كفيل بظهور الشذوذ الجنسي.و يخبرنا ديميلو أيضا أن التعريف الخاص بالأسرة أضحى لغزا في حد ذاته.
و تكمن هنا حجم الكارثة المحققة التى أظهر الباحث مات واليش في وثائقيه الشهير حينما قارن بين البدائية الأفريقية ،و الحداثة الأمريكية.فالوضوح سمة أساسية في البدائية لإن المرء يتعامل بفطرته ،و بوصلته الأخلاقية. فما يمكن أن يأتي بعد ذلك من انحراف ؟!
و للإجابة المختصرة لذلك يجب أن نعود لعدة أمور أهمها و أكثرها تحقيقا هيه حقوق المرأة، فالمرأة كائن رقيق بالفطرة عالم برقته محيط بهشاشته لكن النسوية حولتها من إنسان لحيوان تستحق الدعس لنفسها كما أشار د. هيثم طلعت
فحقوق المرأة التي تعني حقا تمكينها تكون بتحقيق ذاتها و معرفة كوامنها لا باستقطاعها و جعلها كالدواب يتشارك فيها القاصي و الداني.
و تخبرنا شيرن اورغد في كتابها منزل مقدام أن السر الأكبر في هذا البيت هو تقسيم الأدوار بشكل يليق مع مكانة و مركزية المرأة و ليست جعلها مركز ذاتها و ستواجه الأسرة هكذا فرصة الثبات و الوقوف مرة أخرى لتصبح ذات فائدة ناضجة تكتمل نضجها لتكمل القطعة المفقودة للمجتمع.
الاضمحلال الكبير و الانهيار العظيم :مصير الأسرة في الحاضر.
إن الأسرة اليومية قد تغيرت بعمق و طريقة جذرية جعلتها وسط عدة تحديات صعبة ، مما يرتب عليه معرفة مدى التجذر لتلك التحديات لإصلاح شامل و عام ، فقد شهدت على المستوى العملي للتاريخ العربي الحديث تحولات زعزعت مكانتها فيه ، و حولتها في أفضل الأحوال لمجرد لقب بجانب اسمه فقط لا غير ، و خاصة بعد دخول عصر السماوات المفتوحة “عصر الإنترنت “التي حولت الأسرة وفقًا لجاسم الهزاع من الممتدة للنووية.
و بخلاف أوربا و الغرب الذي يناقش فيها ماهية الرجل و المرأة ، فتغيرت الأسرة لتضيق المساحة عليها شيئًا فشيئًا حتى تحولت لثقافة متاحف ، كاتبًا بذلك نهاية الأسرة الغربية، والغرب من بعده بحسب السياسي الأمريكي باتريك باكونين في كتابه نهاية الغرب، ووصلت الكارثة لدرجة عدم معرفة شكل محددة للزواج حتى قال عن ذلك القانوني الأمريكي روبرت بي جورج في كتابه ما الزواج.
و شهدت الأسرة العربية تغيرًا كبيرًا بعد الربيع العربي، حيث حوط الفرد التحديات فاتجه الشباب للعزلة و الانكفاء على الذات، متأخذين بذلك حالة الفردانية التي لا تعترف إلا بذات الفرد و مشكلاته الشخصية الحقيقة، فضيق معيار الأسرة الحاكم من النووية للفرد أي أن الأسرة لم يعد لها دور كبير و حاسم، و كذلك جففت منابع الصلابة لينتهي الشاب بذاته هش النفسية زجاجي العاطفة مضطرب المزاج ، مخالف لكل توجهات الأقران ، متمردًا عليها في أغلب الأوقات ، أو بتعبير إسماعيل عرفة في كتاب عصر الأنا كبير إلا الأنا.
و تلك خلقت تداعيات ساقطة، و متسارعة بشكل أسرع من المتوقع و مخيفة على آثار الواقع المحيط حيث زادت الفجوة بين الأجيال و بات الشباب في مأزق موصد و دائرة مغلقة مفادها التوقعات المرتفعة و عقدة عدم الالتزام التي تقطع أوصال التوثيق الاجتماعي وفقًا لكتاب شيريل توكيل معا سويا.
و على مستوى الفتيات انتشر الفكر النسوي المتهافت، و زادت قابلية الفتيات لرفض النصحية بحجة الحرية و الاعتمادية، متضمنًا ذلك زيادة نسبة النساء العاملات في سن الشباب، و التي لا تحتاج له بالضرورة، لينتهي الأمر كما ألمح الدكتور الفقيه البشير عصام المراكشي في كتابه جدل النسوية و الذكورية لجدل عقيم و دائرة مغلقة لمن يرفض تلك الثقافة المستبيحة و المصفية لطبيعة النساء، فإنك عند تلك اللحظية المفصلية تصبح ذكوريًا رجعيًا دون معرفة أو فك الدلالة الخاصة بمصطلح ينتمى، في حقيقة الأمر، للبوتقة الغربية بامتياز.
و الأنكى أن تجد ذكورًا فقط تريد أن تشاركها المرأة في العمل فيتزوج المرأة العاملة التي عملها في الأغلب سينقلب جحيمًا ضدك ، أو على أقل طرح الانفصال الجزئي عما بينكما ، فبالتالي تذوب معنى العلاقة الأسرية فضلًا عن غياب الرقابة و تصدع المسؤوليات بين الطرفين في المنزل أو بتعبير صبا محمود عالمة الاجتماع و الأنثروبولوجيا “تتحول الأسرة العاملة لمسرح كبير المتضرر فيه هو الأطفال “، و من المؤكد أن يتحول الأطفال لمجرد كائنات متروكة مهملة لا يعتنى و لا يهتم فيتحول الزمن ل”سيء أن تكون طفلًا “بتعبير بيتر ستينز أستاذ التاريخ الحديث و العالمي في جامعة جورج ميسون.
فمع الإكمال بهذا المعدل المتسارع و السريع ، فمن غير المستعبد أن نجد الفساد الأخلاقي قد استشرى و استفحل ، مما يؤدي لاستحلال المزيد من الأفكار السامة و الهادمة التي لن تحتاج غير جهد أبسط و أسهل في ظل هذا الحقبة الظنية في التوجه و المليئة بالفتن خاصة في ظل سيطرة اللبيرالية و النيولبيرالية، و كما يقول الشيخ عبدالعزيز الطريفي في كتابه العقلية اللبيرالية في وصف النقل و رصف العقل أن عقول الأجيال القادمة ، مع التحديد لجيل ألفا بتشتتهم ، و مواجهاتهم أزمات مركبة على كافة الأصعدة ، مما يؤدي لتغيير شكل المجتمع و ازياد الرقعات به لينتج في نهاية المطاف جزر معزولة “تلحمها الرأسمالية “كما يقول ديفيد هارفي في كتابه فضاءات الرأسمالية الجغرافية.
و حدد الإسلام أنسب و أسلس حل في الخلل الموجودة في المنظومة الاقتصادية، متخذًا منهج الإصلاح المبدئي، و عند فشله يلجأ لاقتصاد الاستبدال ، و يتضمن إجراءاته التقويض الكامل ثمة البناء من جديد ، و لعل ذلك أدى لدهشة المؤرخ البريطاني تشازلز تريب حينما كتب بنبرة مندهشة و فاخرة بعظمة الإسلام الاقتصادي الذي صمد في وجه الأزمة العالمية ٢٠٠٨ في كتابه تحدي الرأسمالية، فمن عادة الوحي الشريف الإبقاء و الحفاظ بعكس أنظمة الطغيان الغربية التي صنعت من العالم مزيجًا مقرفًا مخيفًا للإنسان البدائي.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.