Take a fresh look at your lifestyle.

الأقفال .. قصة قصيرة للكاتب حسام المقدم

192

لو لم يأخذ باله في آخر لحظة؛ لأكَلَه الموتوسيكل المجنون. خطف نفسه مُتفاديا الأزيز الخشن فائق السرعة، ووقف مائلا فوق سياج الكوبري القديم، مُغالبا سخونة الدم إثر صدمة تخيُّلية كادت أن تطوله في حارة المُشاة. في الأسفل البعيد ماء مُخضر تتشكل موجاته الصغيرة بانتظام بليد، وخلف ظهره أقواس الكوبري الستة بلونها الرمادي تعلو وتهبط بالبصر نحو تشكيل هندسي منتظم. لو التفتَ الآن، سيجد أن صدمته التخيلية كانت على مشارف فجوة من الفجوات التي تحتضنها الأقواس وتمتد كمربعات استراحة من حارة المشاة. إنها مصادفة سعيدة لو تمت النهاية هنا! فهنا مشى واستراح مع “غير المأسوف عليها”. عبرتهما مئات العيون، رجّهما القطار المُدمدم، في وقفتهما الطويلة المعتادة أمام اللوحة الصلبة المستطيلة البارز فوقها تاريخ افتتاح الكوبري: 1907. هنا ملَّستْ يداها على حديد الأقواس الصلب بطريقة توحي بتتبع نبض شيء حي. كانت قد طلبت منه، في نوبة ثرثرة ضاحكة، أن يبحث على “النت” عن تاريخ هذا الكائن الحديدي الخرافي، وحكاية جمهورية “زفتى”، (مع أن بلدنا “ميت غمر” كانت أولى!). ابتسمَ لأُمنيتها المتعصبة، وغاب مع البحث والتدوين مُتحمسا مُستثارا. كان يحكي لها كل ما يُستجد وهو يدير دبلة الفضة حول إصبعه ويسحبها في عادة حميمة، ستصبح في هذه اللحظة موضع تأمل ساخر. إنه يديرها ويسحبها، تلك المصقولة المحفور عليها أعذب ثلاثة حروف يمكن أن تجتمع بمعنى. هذه الدائرة من الفضة الذائبة تحت الشمس تُسلم نفسها لإصبعين من اليد الأخرى، وتخرج خاضعة لعملية تأمل غير طويل، قبل أن تقطع طريقها مُتهادية ساقطة في المويجات التي احتفت بها بدوامة مناسبة لرأس دبوس. لقد استقرت في قلب العوامة المستطيلة المُفرّغة أسفل الكوبري، لتطول رقدتها وتُعمّر طويلا. هكذا تنبأت الجدات القديمات اللائي كن يأتين من قراهن في غبشة الفجر، حاملات ما يخص مولودا طازجا. يربطن “الخلاص” بثقل، وفي وسط العوامة يقذفن به ليستقر للأبد في القاع. بهذا سيطول عُمر المولود، وبهذا أخبرَ “غير المأسوف عليها” فضحكت واتسعت عيناها: “يا سلام!”. كانت تمتلك أحلى دهشة عينين عرفهما، وحين تتبع دهشتها بالكلمة السحرية: يا سلام؛ يكون ساهما، ماضيا في الحكي ليستمطر أكبر قدر من “السلامات” اللذيذة المُندهشة.

                                               ***

  هل كان يتصور أن مجرد فكرة عبيطة جاءته في وقفته على سياج الكوبري؛ ستجلب كل هذه الضوضاء الباهرة؟ كل ما في الأمر أنه أراد تخليد إخفاق جديد من إخفاقات متوالية. لكنه كان الإخفاق الأعظم.. نعم، “غير المأسوف عليها” هي أعظم إخفاق عليه أن يبتلعه بماء بارد. مشى في حارة المشاة متأملا السياج الطويل بأقواسه المتداخلة الحلزونية. بعقلتين من إصبعه قاسَ عرض القوس في قلب السياج، وخرجت من شفتيه كلمات تائهة: يلزمه قفل كبير. سيُخلّد ذكراها بطريقة لم تعرفها البلد من قبل، وإن كانت معروفة في أماكن أخرى بعيدة. فهناك، في الشمال البارد، الدافئ بالقلوب، يشبكون المئات منها على أسيجة الكباري والجسور القديمة، مُسجلين عليها أسمى آيات الخلود. يكتبون كل ما يمكن أن يوقف الزمن على أقفال رائعة، ذهبية وحمراء وزرقاء. هكذا رأى اصطفاف الأقفال الكرنفالية في صورة جاءته من صديق على صفحته بالفيس، وهي تشكل سياجا موازيا للسياج الأصلي لأحد جسور باريس. سيعرف بعدها أنهم يرمون المفتاح في الماء بعد إتمام شبك القفل ثم استدارة رائعة، ينفلت على إثرها المفتاح طائرا في قوس مرهف حتى يلامس خد الماء في طشة مُدوِمة لطيفة، ليظل بارقا لامعا لبرهة، قبل أن يغيب في طبقات الماء الحانية، تاركا القفل هناك في الأعالي موصدا على الوصال حتى الأبد. وحتى الأبد أيضا، سيضع على سياج الكوبري قفلا كبيرا باتساع عقلتين لإصبع. سيحفر عليه اسميهما مع كلمات لابد أن يتوقف أمامها الماشون من هنا.. كل الماشين سيقرأون ويقلبون القفل المشبوك وليفعل كل واحد ما يحلو له، حتى حق البصق مكفول! فكل شيء يستوي الآن مع ثبوت الأنباء عن سفر “غير المأسوف عليها” مع واحد لبلاد الجاز. في أول الأمر، فكّر على النحو التالي: في أعلى بطن القفل المنتفخ سيكون الاسمان، وتحتهما كلمتان أو ثلاث من قبيل: في ذكرى الخيانة.. في ذكرى الغدر، لكنه نفض رأسه لاعنا تلك الكلاسيكية المُستذلة. وحين ومضَ رأس دبوس كهربائي في عقله؛ عرف ما يبغيه.. فليكتب شيئا يشبهها، يشبه تألقها المغدور، في العينين الواسعتين الآكلتين للدنيا كلها، في أسنانها المصفوفة بموسيقى لم تخلق بعد، في خدين متوردين جعلانه كثيرا ما همّ بجذبها والقفز من فوق السياج نحو الماء وطشة يكون بعدها العدم. لابد من لغة تليق بها. أعاد التفكير: في أعلى القفل سيحفر سهما باتجاهين، وعلى جانبي السهم المزدوج سيكون الحرفان، كلٌ في اتجاه. سيراعي أن يكون حرف اسمها جهة الشرق، جهة “ميت غمر”، حيث بإمكان السهم أن يواصل طريقه كشعاع ليزر إلى مكانها البعيد في بلاد النقاب. حرف اسمه سيستقبل الغرب، جهة “زفتى”، لكنّ شعاع سهمه لن يمضي لأبعد من ذلك. هنا سيبقى مزروعا خائبا يشتغل بالتأمل وقراءة تجاعيد الأرصفة وخطوط الوجوه وثنايا السطور. هذه شغلته بالفعل، ألم تقل له يوما، حين حدثها عن حكاية الكوبري وعساكر الإنجليز و”يوسف الجندي” أيام جمهورية زفتى: “وكأنك كُنتَ معهم”؟ الآن هناك الوقت والفراغ، حيث لا أحد يسأل عن أحد من المُتعاقدين المتدفقين على مكان مهجور يُسمى “قصر الثقافة”! بمجرد أن يُوقّع بالحضور، يغادر في اتجاه الكوبري القريب جدا من مكان عمله، ليغيب في جولات مُوزّعَة على طول اليوم. يفضل بالطبع جولات الليل، تلك التي برق في إحداها بارق بالكلمات المناسبة أسفل السهم. عرف أنه وجد اللغة التي تريح روحه. كانت قريبة جدا دون أن يشعر. ضحك بفرحة حُلوة، واختبرَ القفل الكبير فاستقر مشبوكا في القوس الحلزوني بقلب السياج. فتحه من جديد وصكّه مغُمِدا إياه في جيبه، ومشى قاصدا شارع الصاغة. لم يحفل باستغراب نفس الرجل الذي حفر اسميهما على دبلتين من الفضة، ولا لنظرات ترميه بالجنون. شد وجذب، وفي النهاية اتفاق بسعر قياسي. المصيبة كانت في الكلمات التي ستكون أسفل السهم، وكيف سيطيق هذا العجوز صبرا لكتابة ذلك الهراء؟ الحل الوحيد هو التضحية بسعر قياسي جديد. بالفعل، مدَّ العجوز القفل أمامه وجرت الإبرة الصلبة في الحفر والكتابة. بعد زمن، خرج من المحل يكاد يُغشى عليه. القفل في يده، منتفخ وبض، والكلمات الساخرة تلمع تحت ضوء النيون. في الأعلى شريط السهم المزدوج بالحرفين، وفي بطن القفل تقهقه الكلمات: “حبيبتي كما الكُورة.. جيت أشوطها شُط ع الفاضي”! حُلوة هذه اللعبة التي رجرجت زيت المخ اليابس. هناك، في ذات الليلة، في حارة المشاة، دشّن الافتتاح خِلسة واستمتع بالتكة المعدنية للقفل الرابض اللامع. في اليوم التالي، بعد نوم مستريح، مرّ عليه فوجده مُتقلقلا في مكانه، فعرف أن أيادي وعيونا فحصت وقرأت وضحكت. وقف مائلا على السياج غير بعيد ليراقب بنفسه. اثنان، (ما أحلاهما!) توقفا وقلّبا وتأمّلا في البطن الذهبية، ثم مشيا ضاحكين متشابكين. كثيرون مرّوا دون أن ينتبهوا، ومع القِلة المُتفحِصة سيكتسب القفل ألقا إضافيا بعدد الضحكات المنفجرة بسببه، وبعدد الأيادي التي احتضنته بحنو، وربما بصفعة رجّته رجّا معدنيا مُتخبِطا.

                                               ***

راحة طويلة مسترخية مشت في بدنه. انتظم النوم، ودبّ النشاط في الجسد المتبلد. لسعات كهربية تنقر المخ، ومع كل لسعة قفل جديد مشبوك بعد مشوار الصائغ العجوز والحفر وسعر قياسي يتعاظم في كل مرة. بقي السهم دائما في الأعلى، وجاءت الكلمات متدفقة على البطون المعدنية: “ماكانش العَشَم يا جميل وانت نازل تسرق لمبة السلم”! “حبيبتي مولّعة والمطافي اتأخّرت”! كم قفلا شبك؟ وكم يدا قلّبت ورجّت؟ يا للفخر.. حارة المشاة في طريقها لأن تصبح مزارا في العصاري الصيفية للأُسر الملولة، وعرضا رائعا لاستمتاع الصغار بالتشعلق والخرفشة المعدنية المُبهجة. شباب الورد صدّروا كاميرات تليفوناتهم أمام هذه الضفادع المعدنية المصلوبة بطول السياج. باعة جائلون فرشوا بالترمس واللب مع تشكيلة من الأقفال للراغبين في الانضمام للبدعة الرائعة، البدعة التي جاء بها واحد يقف، ضمن هذا المهرجان الفوّار، حائرا في مساحة رمادية بين القلق والفرح. لقد كانت راحته في المساحة التي بدأ بها لنفسه ولغير المأسوف عليها، في لغة خاصة تعب في الوصول إليها. أما هذه اللغة الجديدة فهي تسحب لاتجاه آخر. في جولات الليل، وعلى ضوء الموبايل، يُقلّب الأقفال ويقرأ كلمات لم يخطها، كلمات جعلته يهذي متمايلا من الانتشاء: آه أيها الكائن الحديدي الخرافي، فيك شيء لا يموت أبدا. امتطاك أولاد الليل والثوار وكل المِلل. ومثلما أنت حبل سُري ربط “ميت غمر” و”زفتى” للأبد؛ كُنتَ خيطا واهيا في قصة لم تُعمِّر. هل ينسى حكاياته التي حكاها لها بطريقة حواديت قبل النوم؟ هل ينسى وصلات الدهشة التي زرعها في عينيها؟ بل قولها الراضخ اللذيذ: “أنصحك أن تأخذ دكتوراه في جمهورية زفتى”. ربما أحبّتْ الحكايات أكثر من صاحبها، حين كانت تسمع بخشوع، مؤطرة صدرها بذراعيها، ساهمة بجانبه في حارة المشاة. أحبتْ “يوسف الجندي” بطل الاستقلال قصير العمر أيام 1919 ونفي “سعد”، حين أدار جمهوريته الصغيرة في “زفتى” بشكل فذ من مقره بقهوة صغيرة صاحبها يوناني اسمه “مستوكلي”، وأوقف السكة الحديد ومنع الغلال عن الإنجليز، ومضى يجمع التبرعات ويُجند الشباب لحفظ الأمن وردم البرك. أحبت يوسف البطل وكانت تُلح في تتبع أخباره، حتى أخبرها- عن عمد- أنه كان ناحلا وفيه جانب فني حالم بدليل أنه، رغم كل الضغوط الرهيبة، أنشأ كُشكا للموسيقى في دولته الوليدة. رأى انكسار عينيها وخيبة أملها في البطل الفنان الذي انتهى به المطاف هاربا مختبئا بعد أن طلبه الإنجليز بالاسم. رغم ذلك ظل يوسف في خيالها هو الأسمر والبطل في مقابل البياض المُنمّش لوجوه الإنجليز. كانت تريد بطلا! لقد جاءها وأخذها كما تمنت إلى بلاد أخرى. يريد الآن أن يراه ليتأكد هل هو أسمر أم لا؟ وهل هو بطل أم لا؟ يتخيلها هناك ماشية إلى جواره تبرق عيناها في النقاب، وتضحك.. تضحك على القائد الإنجليزي المحتاس بين زفتى وميت غمر التي استقلت هي الأخرى كسلطنة، حينها سيطلق كلماته من فوق ظهر الكوبري لتحفظها الألسن وتصير مثلا: ليس أسوأ من زفتى إلا ميت غمر! تضحك على جنوده المتساقطين في النهر، كما يضحك هو الآن على حكاياته المتساقطة من ذاكرته. ماذا لو كانت هنا ورأت هذه الأقفال كلها؟ الأقفال التي وُضِعت في البداية على شرفها. وها هو الأمر يمضي بعيدا بأقفال جديدة وشعارات مستثارة، بعضها محفور والآخر مكتوب بأقلام ملونة. إنه يريدها في هذه اللحظة، ليُريها بافتخار أنه ليس خائبا لهذه الدرجة. يُريد دهشة عينيها وهي تراه يمشي على الكوبري وسط دنيا من اختراعه.

 

في حارة المشاة مشت دبابيس النار في دمه. راح يخبط سلاسل الأقفال المتراصة، فتشخلل بإزعاج معدني حاد. يقرأ الشعارات والنداءات الجديدة. اللغة ليست لغته، إنها لغة شابة ممهورة بتوقيع موحد لمجموعة تُسمي نفسها “شياطين القفل”. حقا شياطين هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك. شعاراتهم ونداءاتهم تنبئ عن هوس عجيب: (“شياطين القفل” تناشد الجميع تعليق أكبر عدد من الأقفال). (“شياطين القفل” تعلن عن مسابقة لأكبر قفل في البلد يتم تعليقه على الكوبري). (“شياطين القفل” في خدمتكم، للتخلص من جميع أنواع الأقفال التي تكبس على صدور الناس).

الشياطين! يقولها بحسد مبتهج وهو يرى التكات المعدنية تتواصل في وضح النهار، حتى سدّت السلاسل اللامعة باطن السياج الأجوف. وفي الليل سيتمدد في حالة طربية أمام التليفزيون، مُتابعا لتقرير تعرضه إحدى القنوات. تجري عيناه، مع الكاميرا وصوت المذيع، على طول السياج المتلألئ بشموس معدنية.

* حسام المقدم – عضو نادي القصة بالدقهلية

التعليقات مغلقة.