بقلم.. مصطفى نصار
سقط نظام الأسد الحاكم القابع على صدور السوريين منذ نصف قرن ، و يجدر بالجميع التعلم من دروس اللحظة الراهنة و إلا لن تتم سنة الله في التدافع التاريخي المرهون بقوة التغيير و سرعته ، و كذلك التغيير المراد لا المفروض علينا من الخارج ، منتهيًا باحتواء البلاد و حكمها تحت الحديد و النار لفترات مديدة تستنزف الأخضر لتحول لنضب و خراب لا يرجيء منه إلا إصلاح طويل الأمد ممهد بخطة عمل طويل ، الأمر الذي نراه جليًا في سورية من أحداث متسارعة طوت صفحة أسوء إحدى الدكتاتوريات في التاريخ المعاصر .
و من جهة أخرى ، فإن الاستبداد السياسي متجذر في التاريخ العربي الحديث لما للدولة بصفتها هيكل مستورد في الأساس ، حتى اعتبرها بعض المنظرون مستحيلة في ظل حكم إسلامي كوائل حلاق صاحب كتاب الدولة المستحيلة، و أستاذ العلاقات الدولية برتران بادي الذي أكد في كتابه الدولة المستوردة أن النظام السياسي في الدول العربية و الإسلامية ذا روح نافذة من القرون الوسطى ، فنتيجة لهذا التشوه الأصيل ظهرت الدول العربية استبدادية و تابعة الغرب كما لو أنه إلهًا يعبد فوضعت معادلة سياسية سهلة تتمثل في قول الشبيحة “يبقى الأسد و ينحرق البلد “أو بلطجية عصر مبارك “هو أو الفوضى” في معادلة صفرية تنتج تليغف ممنهج و سجن مأساوي سواء على المستوى القيمي أو الرمي في المعتقلات .
و يتميز الاستبداد العربي تحديدًا، و السوري خاصة بالصلابة و القوة المستمدة من قوى السلاح ، مع نخب غارقة في الفساد الفكري و الأخلاقي أو عندها قصور في أن حالات الإصلاح في الدول العربية مستعرة بحق لا فقط للغرق في الفساد و الإفساد دون أن يترك الأمر للصلاح لمروره و عمله بطريقة محدودة أو ممزوجة بالفساد كما هو الحال مع الغرب، بل يضيقون الخناق على الأمور المعتادة و الطبيعية في مقابل استفحال صورة الفساد من رشوة و محوسبية و تعيين انتقائي في الوظائف و المناصب بحسب ثقتك أو طائفتك أو جهلك بالوظيفة من الأساس، مما يسهم في صك و هندسة نخبة فاسدة هدفها فقط الحفاظ على المصالح الشخصية و المناصب الفردية .
خذ أيضًا ما قاله الدكتور زهير مبارك في كتابه أصول الاستبداد العربي أن المستبد العربي ، و الذي يقينيًا يرى نفسه كتجسيد للإله على الأرض في سياساته ، و إجراءاته ، و معرفته مع حقيقة يعلمها قبيل أي شخص أنه جاهل أرعن لا يفقه شيء إلا السرقة و الدماء ، متخذًا لنفسه أسطورة لتكريس حكمه و تقوية قبضته مثلما فعل السادات و حافظ الأسد، فكلاهما كرس أسطورة لصيقة بالحرب مقابل الاحتفاظ بالكرسي و غير تركيبة المجتمع للمسوخ التي رأيناها في سورية أو نتعايش معاهم في مصر ، مثير لفضول جلال أمين عالم الاجتماع و الاقتصادي ليؤكد بداية حقبة جديدة “تتحكم فيها قوانين العرض و الطلب “فكونت تشوهًا و اجتزاء مخل و ربط مختل في الأفكار و العقيدة و شوهت بالتالي فكرة أن أي تغيير قد لا يؤدي إلا للأسوء ، متأخذين لأنفسهم نظريات المؤامرة و قدوات زائفة لا صحة و لا علم لها ، و حتى الفلاسفة المصريين كانوا على مستوى كبير من التخبط و الأصولية اللادينية ، فاتخذ حسن حنفي و خليل عبد الكريم و نصر حامد أبو زيد منهجًا مجدفًا له أقاويله المؤسسة له منذ فرح أنطون و جرجي زيدان في مقابل الهجوم على الثوابت الدينية دون إغفال أو تمهيد بالهجوم لإن هدفهم ليس النقد و المناظرة المحايدية ، و إنما عمل تزويري تجريفي لقيم الدين، و ما لا يمكن إغفاله تغذية الاستبداد التسلطي لهم لما للدين ، و تحديدًا الإسلام موقفه “الصارم القوي “تجاه مجابهته بحسب المفكر عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد و مصارع الاستبعاد ، مما يجعل مهاجمة الإسلام و تصفيته هدفًا في حد ذاته ، مما سيرتب عليه هدمًا غير مسبوق على مستوى القيم و الأخلاق باسترداد النموذج الغربي المشوه في المجالات المختلفة و هذا ما سيخلف انحدار نحو الأمراض النفسية فسيجد الفرد نفسه أمام الانتحار بصفته حل دائم لمعاناته أو بصفة دائمة موتة دائمة .
غير ذلك ، يقوض الاستبداد التسلطي في حالة سورية أي محاولة مجيدة للإصلاح و الترميم لإن الاهتمام في حد ذاته دليل على زرع الانتماء و التجذر ، مما قد يمثل تهديدًا على الدكتاتورية لإن مثلما يقول الدكتور ماتياس دسميث في كتابه سيكولوجية الدكتاتورية أن الدكتاتورية تريد عبدًا مطيعًا لا يناقش و لا يعترض ، و هذا ما فعله الأسد بترسيخ الصورة الوحشية و الإجرامية عبر الاعتقالات و التخلص من معارضيه ، وجعل المواطنين إما فئران أو نمل ، و غلق المجال السياسي العام ، فضلًا عن الصراع المحموم على المناصب وفقًا لباتريك سيل الصحفي المتخصص في الشرق الأوسط في كتابه “‘الصراع في سورية”مما جعلها عبرة و نموذج يعادي به المستبدون الآخرون شعوبهم باعتباره تهديد سائغ و مرعب في الوقت نفسه لتحقيق غرضه المطلوب منه .
الأمن القومي في مواجهة الدكتاتورية :الوطن الغابة نهاية لأي أفق
عندما كتب الأستاذ الصحفي أيمن الصياد مقاله بعنوان دروس سورية أعلن فيه حقيقة أن الدكتاتورية “هادمة و مقوضة”لأي هدف يراد منه الإصلاح الذي يريد مستقبل أفضل ، مع تغافل غير معتمد أو وقائي لآثار و كوارث الدكتاتوريات إلا ذكره أنها تقوض نفسها بنفسها و شر مطلق بحسب فكرة المقال الممتدة .
بخلاف رؤية الصياد الذي يطمئن فيها الناس من أن الإسلاميين أفضل من الأسد رغم شبهتهم ، فإن الدكتاتورية الشمولية تصفي مقومات الدولة و تحولها لغابة وحشية مكونة من قضبان و أقبية سجون و عبيد و خانعين و معتقلين ، و سلطة متوحشة حاملة في بينتها عوامل تدميرها ، و تقلب المواطنين لمحكومين بنموذج المطيع وسط الخوف المحيط بكافة المجتمع مثل السياج ، و يتحول لذلك لنموذج البينتكون المصمم من جيرمي بنتام ،مما ينسف أي معيار قيمي تلتزم به الدولة تجاه شعبها لإنها تراهم باعتبارهم سجناء أو عبيد .
علاوة على ذلك ، تنمي الغابة غرائز البقاء الراسخة في النفس كالجوع و الأمن و الأمان ، لما يواجه الفرد من عوائق معرقلة و تبعات كارثية في تحقيق الرغبات الأولية ، فلجوء الفرد الأعزل و المسالم للسلاح ، أو كما يقول عالم الاجتماع الأيرلندي سنيشيا ماليشزبيش في كتابه صعود الوحشية المنظمة أن البيئة المحفزة للظلم و القمع و الطغيان محددة و محفزة لأي شخص بأي توجه فقط للتخلص ممن انتهك أمنه الشخصي و الاجتماعي، غير طبعًا تحوله لوحش كاسر ذا أفق ضيق و صدر أكثر انغلاقًا لانشغاله بحد الكفاف و عدم الاهتمام إلا بنفسه ، حتى يكتب له فرصة للهرب أو يقوده حظه لمعتقل من المعتقلات أو تصفيته خارج إطار القانون .
و لهذا ، تهدد الدولة الديكتاتورية نفسها بنفسها بسبب طغيان بين مصير سيء و الآخر أسوء منه ، أي بعبارة الكاتب الفرنسي جان بول سارتر الطغيان عدو ذاته ؛فإن لجأ للعقل و العلم تدمر ، و ذلك ما تعرضت له السودان حينما انفصل البشير عن شعبه ، و عمل على تقوية فئات أحادية بتقوية و إرساء جذور لميليشات الدعم السريع بطريفة نموذجية في التمهيد لما ستشهده السودان فيما بعد ، محققين بذلك الوجه الأحقر و الأمثل للفتنة و رهن الامن القومي للمجهول و الاطراف الدولية و الإقليمية للاستفادة منها و نهبها.
و بالطبع، لا يستثنى من تلك الدكتاتورية الشمولية العسكرية التي تحول البلدان لثكنة عسكرية كبيرة، و ترهن الأمن القومي، بكامل صورته ، للأقلية الحاكمة مما يهندس صورة أقرب للاحتلال أو أشد منه قسوة و منعة ، فيصبح بذلك الأمن القومي مرادفًا لمعنى النظام السياسي الحاكم و حاشيته ، و بالتبعية يتحول المواطن لقنبلة موقوتة للبحث عن بديل أمن ، و هم بالأحرى في تلك الحالة الإسلاميين الذين تعلموا و تراكموا خبرات عديدة في مواجهة آليات و آلات الديكتاتوريات العربية بفكر جديد قفز على كل الدكتاتوريات المتحجرة ، بدءً من تركيا التي تخلصت من العسكر ، و انتهاء بسوريا الذي بدأها و أنهاها شعبها الأبي بمختلف تياراته و طوائفه .
فوفقًا للدكتور نزيه الأيوبي في كتابه الإسلام السياسي، اكتسب الإسلاميون دورهم البارز في التاريخ العربي و الإسلامي من أمرين مجابهة الظلم و الاحتلالات المختلفة حتى لو كان محليًا كسورية و السودان و غزة لإنهم معترفين بحق المستضعفين و المقهورين في الأرض بخلاف الدولة العربية المتعجرفة و المتكبرة التي تنتهج أساليب جوبلز الإعلامية و حيونية الإنسان ، أو بتعبير الفيلسوفة كاثيلين تايلور في كتابها القسوة في التاريخ الإنساني “قوة المقهور غير المباشر ” ، مما يكتب نهاية مدوية غير قابلة للإصلاح أو الترميم .
فبناء على ما سبق، لا تهتم الدكتاتوريات كذلك بالعدل أو المساواة، بل تسهم في خلق قوانين تيسر عليها حرية الاستعباد و الانتهاكات على كافة المستويات حتى لو كان ذلك على حساب أحد المؤسسين أو المقربين مثلما فعل محمود عباس مع حركة حماس ، و عمر البشير مع الحركة الإسلامية الذين أوصلوا للحكم ، و كذلك السادات مع الاشتراكيين لينتهي الأمر بزيادة توغلهم و تعمقهم اجتماعيًا، و اكتساب الحضنة الشعبية باعتبارهم موظفين لتلبية أمور أساسية و الاحتجايات الأساسية التي تدخل ضمن الأمور الإيمانية قبيل الأمنية كما ذكر الكاتب جوزيف نوم في كتابه تعريف الأمن القومي مدخل بيني للدراسة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.