Take a fresh look at your lifestyle.

(ألسنة التماسيح لا تُرى).. لمحات من سيرة إيبو- نِخْت (شريف الجهني)

217

(ألسنة التماسيح لا تُرى).. لمحات من سيرة إيبو- نِخْت

– شريف الجهني

بينما يكدحُ الغاسلون في البَللِ يرفعُ نبات البردي هامته ذات الأزهار الخيميّة فوق رؤوسهم في صلفٍ، الشمسُ ترتفع في السماءِ قدر رُمحين، ومُشرف الغسيل الملكيّ (إيبو- نِخت) يقف على رابية منخفضة تطل على النهر يلوّح بعصاه يستنهض هِمَم الغاسلين ويراقب في حذرٍ حشدا من أفراس النهر تصارع تمساحاُ يضرب الماء بذَنَبه المُحرشف..طائر *الكُرْكيُّ ناصع البياض يقف مَزهواً بعنقهِ الممشوق وساقيه الطويلتين النحيلتين.. جَفل مُحلقاً حين مَرَّ فلاحٌ يُجعجع بمحراثه ويسوق أمامه ثورين أقرنين..ما أصعب أصبوحة العمل عَقِب يوم حافل!

بالأمس كان عيد *(باستت) عين رع المُسالمة، وسيدة الأرباب والأرضين..الغاسلون لا يفرحون بمقدِم الأعياد، يتطلب الأمر منهم انتظاره بنقع أردية الكِتان ، ثمّ فركها بالصودا والطبشور، وضربها بالعصا المُفلطحة.. سليلو الدمّ الملكيّ لابد أن تكون ملابسهم زاهية نظيفة ناعمة..يرحل العيد تاركاً للنبلاء تخمته، ولصغارهم بهجته، وللغاسلين بقع الطعام، واحمرار النبيذ، ولُطخ حبَّات التّوت على *النُقَب الكتانية البيضاء القصيرة ، ودهن الإوز على الأحزمة المُطعّمة بالخرز، والصَّدف المُطرَّز بوبر البقر المُذْهَب..تنظيف الأحزمة عمل دقيق يتطلب تمرس وحرص ..لذا يتكفل بتلك المهمّة غاسل حاذق..الغاسلون يكنون أنفسهم بأشقاء التماسيح تفخيماً..تلك التماسيح المُبجلة التي تستكِنُّ في الشتاء وتنشط في الصيف..فصل الصيف يعني للغاسلين المزيد من الكد حيث المناخ الحار والهواء الرطب المترب الذي يجعل الملابس تتسخ سريعا ..

ينشد إيبو أهزوجته الأثيرة ليضخ العزم في أذرع الغاسلين

نحن الغاسلين

أشقاء التماسيح

التماسيح ألسنتها حبيسة

ملتصقة بحلقها

من يهتم

هذا لا يهم

هي لا تحتاج للحديث فلديها فكين قاطعين

هي ابنة الصبر

تشرق من المغيب

ولا تعرف الصخب

نحن الغاسلين

نقبع في الماء

الماء أصل الأشياء وجوهر الفرد

هل تسمعنا؟

نحن الغاسلين أشقاء التماسيح.

إيبو يملك الكثير من أناشيد الفخَار بمهنته التي ورثها عن أسلافه، تلك المهنة التي يعافها الفلّاحون ويرونها مَعِيبة، يحتقرونهم كونهم لا يوقرون *(الماعت)..مذ وضع الكاهن الأكبر يده على صدر إيبو وهو يقول: بُنيّ ..كن مطمئنا ملابس النبلاء لا تلوث ماء النهر ، ومن حينها لا يحفل إيبو برأي العامة ..وربما يتغوط أو يتبول في النهر بضمير مستريح

(بي- خِن) وصيفة القصر ذات الأنف المُعوجّ والوجه الصَّلب تدفع إليه بالأردية وتنطق جملتها النّمطية (إيبو..إليك أردية متسخة) وربما تضع الملابس على طاولة الشَّدِ دون التفوه بكلمة..حينئذٍ يسمع إيبو صوتها يتردَّد في جوفه (إيبو.. إليك أردية متسخة) .. يهم الغاسلون بعصر الملابس، وذلك ببرمها بين عصاتين إحداهما مثبَّتة في الأرض كالوتد الضخم، والأخرى يلفّها الغاسل بين ذراعيه القويّتين..يُبرَم الكتان فيتقاطر الماء منه . يتضرّع إيبو- نخت للإله *(شِدّ) : أيها المنقذ المُخَلِّص..اِحفظ ثوب سيدي ومليكي ورب نعمتي من التمزق..احفظ أشقائي من فكوك التماسيح وأذيالها.. اِحفظ هؤلاء المساكين من أنياب أفراس النهر الكاسرة..أفرِغ ماء الغفلة على عينيّ بي- خن اليقظتين..بارك حنطتنا ونيلنا..آمين

ينتهي عمل إيبو- نخت قُبيل الغروب..لا ينصرف حتى تجف آخر قطعة ملابس..بعد جفاف الأردية يقوم مساعدوه بشدّها من الأطراف على ألواح خشبية حتى زوال التجعدات، ثم تبخيرها بحرق زيت اللوتس والزعفران المخلوط بمسحوق قِشر الليمون الطازج، تحضر بي- خن إلى غرفة الشدّ والتّعطير وتبدأ في رفع الملابس لأعلى قطعة تليها أخرى، وتفحصها جيدا تحت السراج الزيتيّ، ثم تودعها بعناية سلال الخوص المستطيلة ..يتنفس إيبو- نخت الصعداء حين تنصرف (بي) دون إبداء ملاحظة عن بقعة لم يتم محوها جيدا، أو خرزة سقطت من حزام خِصر ..لاحظ إيبو أن بي- خن كانت أشد تجهماً تلك المرة..ليست هي فقط بل كل موظفي القصر يبدو عليهم التبرم..ربما الاضطراب الذي يعم البلاد كان له أثره..أذان الوصيفات تلتقط الكثير، وأفواههم تنقل أضعاف ما تسمع..تسرب إلى سمعه أنباء عن الخلاف الحاد بين الملك وسيده حاكم إقليم *جو- حِفا.. يقولون أنه استقل بحكم الإقليم… النيل منخفض هذا العام ، والأراضي النائية عن النهر جدبت، وعم السخط البلاد بعد فرض المزيد من الضرائب..ولأول مرة يخرج مجموعة من المتمردين عن طوع الحاكم معلنين حالة العصيان.. طاردهم الجند حتى أمسكوا بعضهم، وهرب مَن أسعفته عافيته وراء الجبال وفي الكهوف..من تم الإمساك بهم حُكِم عليهم بالموت بالخازوق، لا ينسى إيبو مشهدهم أمام ساحة المعبد وهم يجلسون على الخوازيق التي تخترقهم من فتحة الشرج وتخرج من أعلى الكتف الأيمن ..اثنان من الجنود تم إعدامهما بنفس الطريقة عقابا لهما على موت المُعاقَب أثناء عملية خوزقته..المخوزِق الماهر هو الذي يطيل فترة معاناة المحكوم عليه ولا يدعه يموت سريعا..هذه الأفعال تمّت بمباركة كهنة المعبد الذين كان لهم نصيب معلوم من الضرائب..من حينها والناس امتنعت عن الذهاب للمعبد..بل وتجد الكاهن لا يستطيع أن يسير آمنا في الطرقات بعد أن كان يحظى بتبجيل كبير، فلا عجب إن أصابه حجر مجهول يأتيه من بين الحقول يشج رأسه

*

يعود إيبو لبيته المبني بالطوب اللبِن لتضع بين يديه زوجته كوكيتا صحن العدس وكُسر خبز *السوت، وشرائح البصل..يفرغ من طعامه وينهض متثاقلا ..ينحني بجذعه على زلعة من الفخّار ليملأ كوبا ببعض *الجعة.. يحتسيه وهو ينظر مبتسماُ لطفليه العاريين وهما يلعبان بخمسة أحجار صغيرة يقذفونها لأعلى ثم يلتقطونها بمهارة..يطفئ السراج ويضجع على جانبه الأيسر ..كان يتأمل القمر من كوة مربعة أعلى الجدار حين أتاه صوت كوكيتا الهامس المتمددة خلف ظهره

إيبو- نخت يا لمعة عيني،ودثار جسدي ..أنمت؟

ينقلب على جانبه الأيمن، فيواجهها ويمرر ظهر كفه على وجنتها وهو يقول

– لا.. لم أنم كوكيتا بقرتي الحبيبة

– ما ليَّ أراك مهموما ؟

تصدر عن إيبو- نخت شهقة قصيرة لم يفلح في وأدها، ويقول:

راعي الخزانة خفّض جُعل العاملين بالقصر إلى النصف، وكما ترين بالكاد كانت تكفينا حصتنا من الحنطة والشعير والذرة والدُّخن

– فلتبحث عن عمل آخر إيبو ذو الصوت الصادق

– لم أرث من أبي إلا تلك المهنة التي يحتقرها العامة، كم تمنيت أن أعمل بالزراعة أو الخرازة،..أوتعرفين؟ على الضفة الأخرى من النهر قطعة أرض كانت جدباء لا يملكها أحد..الآن عرفت المياه لها سبيلا..أرجل أفراس النهر الثقيلة أحدثت مسربا ينساب عبره الماء..لم يتنبه أحد إليها ..ولكن كما أخبرتك لسنا أحرارا.

جذبت كوكيتا رأسه وقبلت جبينه، ثم كشفت عن نهديها البضين وضمته إليهما وهى تهمس

انس إيبو..انس..آنوريس يرعانا بذراعيّه القويتين..(ثم اهتزت فداعب نهداها أنفه، فغزا عبير الصندل حواسه )

– كوكيتا يا..(قاطعته وهي تهمس بغنج)

– تمرغ أيها التمساح إيبو بين ضفتيّ نهري الصافي، وأسكب أحزانك في كهفي الدافئ..كوكيتا الليلة لن تجعلك تتذكر رأس تحوت أهي لطير أم لثور (ثم ضحكت)

*

كانت الشمس في مهد بزوغها حين خرج إيبو عاريا من الترعة المحاذية لبيته..تناول خِرقة بالية من الكتان قد علقتها زوجته على كرناف نخلة بجوار الدار ، فجفف بها جسده ثم ألقاها لكوكيتا التي كانت تنظر لجسده النحيف بزهو..تناول مئزره ولفّه بيدٍ متدربةٍ حول خصره..حينها كان كلبه الأشقر مسحوب البوز مقعيا بعَرْصَةِ الدارِ مُنتصب الأذنين..تناول عَصاه وسَحب لِجَام حماره واتجه صوب القصر مُشيّعاً بنباح كلبه الذي كف عن النباح وأخذ يحرك ذيله حين شرعت كوكيتا تغني بصوت ساحر وهي تضرب الصناجات.

(في الحديقة وردات بيضاء

تحْمرُّ خجلاً أمامَكَ

أنا حبيبتُكَ الأولى

أنا لكَ كالحديقـةِ

زرعتُها بالورد

وبكلِ أصنافِ الشُّجيراتِ

ذواتِ الرَّوائحِ العذبةِ .

مثيرةٌ حفرةُ الماءِ فيها

التي حفرَتها يداكَ .

عندما تهبُّ ريحُ الشَّمالِ الباردةِ

على المكانِ الرَّائعِ الذي أجولُ فيه

يداً بيدٍ معكَ

يمتلئ قلبي سعادةً

لأننا نجولُ معاً .

يُخدِّرني سَماعُ صوتِكَ

وأنا أحيا ، لأنني أسمعـه

وكلّما رأيتُكَ

كانَ أفضلَ لي من الطّـعام والشّرابِ )

يمر إيبو ممتطيا حماره على حقول الذرة الشاسعة.. يلقى التحية على ثلاثة فلاحين يجلسون أسفل شجرة الجميز وأمامهم بعض أرغفة البِتّاو وثمار القثّاء..يدعونه للطّعام بصوت خفيض لا يكاد أن يُسمع ..يشكرهم ويكمل طريقه نحو بوابة القصر المحاط بالأسوار العالية..يجد ثلّة من الفلاحين قد احتشدوا يبغون مقابلة الحاكم..يبدو عليهم الضّيق الشّديد..عند الظهيرة كان إيبو يقف أمام خازن الغلال يتوسله جاثيا على ركبتيه

– سيدي المبجّل ..لا يوجد في داري نصف صاع حنطة يتقوت بها صغاري..أرجوك كن رحيما بهم يرحمك الإله حين ترحل لأرض الصمت..كن لطيفا حتى يُثبّتُ الإله السكينة فوقك كما تثبت السماء على عمدها الأربعة

لم يجبه الخازن بكلمة واحدة، ولكن أشار لحارسين أنهضاه برفق، ثم أخرجاه خارج القاعة..وكأنه كان مخدرا وأفاق فوجد نفسه خارج ديوان الخازن..همّ باقتحام القاعة ليعاود الطلب..ولكن الحراس منعوه بقسوة وانهالوا عليه ركلا وصفعاُ..استجمع قواه ونهض يسير متثاقلا نحو بوابة القصر ذات المزلاج الضخم..حينها رأى الحراس يقفون خلف الباب الخشبي الذي كان يهتز بشدة من الجموع التي احتشدت خلفه..متمردو الجبل تسوروا السور المرتفع وقفزوا لساحة القصر..اتجهوا ناحية الباب وانهالوا على الحراس بعصيّهم وأفلحوا فى فتح الباب..كان إيبو متسمرا من هول المفاجأة يشاهد الحشود الكبيرة التي كانت في أول الصباح شرذمة قليلة لا خطر منها..قبل المَغيب كان القصر خاوياً من كل شيء..قُتل الحاكم ضربا بالعِصيّ المفلطحة ..ونُهبت خزائن القصر، وصوامع الغلال وزرائب الثيران وحظائر الإوز…كل شيء كان ينطق بالفوضى العارمة..أجساد الجند كانت وجبة دسمة لتماسيح النهر..الكهنة فروا إلى الكهوف مذعورين.

**

صباح اليوم التالي كان إيبو يعبر بقارب صغير إلى الضفة الأخرى من النهر هو وزوجته وطفليه وكلبه ..ثلاثة أيام من العمل المتواصل حتى انتهى من تشييد بيته الجديد الذي كان به الكثير من الحب والكثير من الغناء..والقليل من الحِنطة، وثلاثة أمداد من الشعير ، وبجوار الفُرن الطّيني ثمَّة سلة مخروطيّة من الخوص في نصفها العلوي ثمار تمر جافة..لم يكن تمراُ من نوعيّة جيّدة..بل كان مُسوّساَ…لا بأس..لن يتضرر إيبو- نخت من التّمر التّالف طالما يقبع أسفله الكثير من قِطع الذهب الملكيّ النّقيّ.

هوامش

-الكركي: طائر احتفى به المصري القديم على الجداريات، وكان من الأطعمة المفضلة لدىهم

– النقب: جمع نقبة..التنورة القصيرة

– باستت : إحدى آلهة قدماء المصريين.. ترمز للحنان والوداعة

– الماعت : آلهة الحق والعدل والنظام في الكون..

– شد: إله اتصف بإنه المنقذ أو المخلص يأخذ من صفات حورس

– خبز السوت: خبز الشعير

-حين يقول الزوج لزوجته بقرتي الحبيبة قمة المدح، فالبقرة كانت رمزا للجمال

-الدخن: نبات عشبي حولي..له العديد من الاستخدامات عند المصري القديم..وعرف كمقو جنسي

– الخرازة: حياكة الجلد

– آنوريس : معبود قديم، ويعني اسمه الذي يحضر البعيدة

– الصناجات: آلة إيقاعية تصاحب الراقصات

– نشيد في الحديقة وردات بيضاء من الأناشيد الشعبية للمصري القديم (بتصرف)

– البتاو: خبز من دقيق الذرة

– جو-حفا: من أقاليم مصر القديمة وتعني إقليم جبل الثعبان

– الجعة: مشروب منقوع الشعير..وكان المشروب الشعبي الأول حينها

التعليقات مغلقة.