من الممتع في الأدب أن تعاوده مرة بعد مرة ,و في كل حين تجد نفسك بإزاء اكتشاف جديد ,و متعة جديدة متجددة ,على الدوام , و من هذا المنطلق, و بدافع من هذا الإحساس اللذيذ, أتناول نصا واحدا ,من نصوص كتاب الأديبة إيمان الزيات ( يمر على روحي كدهر ), و هوالنص المعنون ( في وجه الاتهامات ) ,و ذلك بعد أن تعرضت للمجموعة القصصية كاملة بالنقد و التحليل في قصر ثقافة الشاطبي العام الماضي في أمسية أدارها الأديب الكبير محمد عبدالوارث .
العنوان ( في وجه الاتهامات ) هو مفتاح الولوج للنص وعالمه, و نجد في العنوان ثلاث دوال هي : حرف الجر (في) و يعبر عن الانغماس و التغلغل في الشئ ,ثم الدال الثاني (وجه ), و هي مفردة و نكرة و إنما تكتسب التعريف من الإضافة إلى الدال الثالث (الاتهامات) و التي جاءت جمعا للتعبير عن الكثرة و الخطورة و التأزم المجتمعي الحاد, هذه نقطة , و النقطة الثانية بخصوص العنوان أقول : لكأني بمبتدأ محذوف تقديره ( نحن / أنا ) أو ( واقف / واقفون ) أو ربما يمكننا تقدير فعل محذوف ( أقف / نقف ) و لكأني بهذه الاتهامات تطالنا جميعنا – أو هكذا يجب أن يكون لكي يهتز وعينا الجمعي اهتزازا إيجابيا, من أجل التحرك نحو النور و التغير للأفضل ,و هذا دور الأدب الذي أراه و أؤمن به !.
واختارت الأديبة من الوجه, أهم مكوناته ,المعبرة عن الانفعالات النفسية ,ألا وهي العيون, وهذا الاختيار متسق مع العنوان, و متسق أيضا مع دراما النص, و لعله الاتساق نفسه الذي أنتجه الأديب محمد عطية محمود ,في مجموعته ( عيون بيضاء ) فالعيون, و من ثم الذاكرة البصرية,عندهما ,هي وسيلة رصد العالم و هي أيضا وسيلة التعبير.
وقد جاءت في النص ألفاظ هي : الضوء , النافذة البيضاء ,عرضا ,المرآة , ملامح غليظة , نظارة شمسية , تمتقع وجوه ,إخفاء , تزداد ملامح الضابط قسوة , أعين متلصصة , المشهد ,تختفي , تتلصص , انشقاق الرداء عن الكتف, و ظهور جزء من جسد المرأة الأبيض / “يسيل بياضها سريعا من الشق” بحسب تعبير الأديبة البليغ , بصره , يرى , نظارته , ينظر بعيون كالشرر, في عينيه نظرة خزي , نظرة صادقة من عينين مظلومتين , هزيلة , ينظر بغلظة , مخفيا عينين بشريتين تحت نظارته , أعين متجسسة , أعين شامتة , أجساد متدلية من النوافذ … هذه الألفاظ جميعا جاءت من بيئة واحدة / بيئة بصرية ,و لا ينفي ذلك اشتراك حواس أخرى في إنتاج الدلالة الأدبية عبر النص, كالصوت و الرائحة و الحركة و الملمس ,و من ذلك قول الأديبة, في صورة شعرية رقيقة : رائحة سلام تعبق البيت مع البخور ( فالرائحة تدرك بحاسة الشم بينما السلام مفهوم مجرد و عقلي و هكذا جمعت الأديبة بين أنماط من التصوير الفني في صورة واحدة كما أصّل ذلك الدكتور فوزي خضر في كتاب التصوير الفني في شعر فهمي إبراهيم في ديوان معزوفة الوهج الغامض), و لكن الغالب في النص ,هو تلك الحالة من المشهدية البصرية,العامرة بالحركة, و أكثر ما يعنينا هنا ,هو هذه العلاقات و النظام ,الذي يربط مكونات النص جميعها, بدءا من العنوان و حتى نهايته ,فكأننا بإزاء كائن حي ,كل جزء منه يتآزرمع ما جاوره ,لإنتاج دلالة النص الكلية, وحالته الوجدانية المتدفقة ..
القصة تعكس واقعا اجتماعيا قاسيا – يدركه أغلبنا – أجبر الأم الفقيرة , أن تشتري ملابس بناتها بالتقسيط , من شخص عديم الضمير, يضيف صفرا كاذبا على الشيك ,ويتدنّى فيشكو المرأة في قسم الشرطة , و توحي ألفاظ (هزيلة) وصفا لساق البنات و أيديهن و كذلك دخول العائلة بيتها في (وهن) توحي ألفاظ ( هزيلة – وهن ) بالحالة البائسة التي هم عليها .
و انظر إلى هذا التبدل في وجدان الضابط, في مواقف النص بما يتسق بالتصاعد الدرامي للعمل, فانظر إليه في البداية : رجل ذو ملامح غليظة و من خلفه آخران ,رديئا الملابس, ضخما الجثة يخبرها الغليظ – من أسفل نظارته الشمسية, بأمر القبض عليها .
ثم تزداد ملامح الضابط قسوة ,و يزمجر مهددا و يرعد ..
المزيد من المشاركات
التعليقات مغلقة.