Take a fresh look at your lifestyle.

“في وجه الاتهامات.. للأديبة إيمان الزيات”.. تعليق نقدي عاطف الحناوي

217

من الممتع في الأدب أن تعاوده مرة بعد مرة ,و في كل حين تجد نفسك بإزاء اكتشاف جديد ,و متعة جديدة متجددة ,على الدوام , و من هذا المنطلق, و بدافع من هذا الإحساس اللذيذ, أتناول نصا واحدا ,من نصوص كتاب الأديبة إيمان الزيات ( يمر على روحي كدهر ), و هوالنص المعنون ( في وجه الاتهامات ) ,و ذلك بعد أن تعرضت للمجموعة القصصية كاملة بالنقد و التحليل في قصر ثقافة الشاطبي العام الماضي في أمسية أدارها الأديب الكبير محمد عبدالوارث .

العنوان ( في وجه الاتهامات ) هو مفتاح الولوج للنص وعالمه, و نجد في العنوان ثلاث دوال هي : حرف الجر (في) و يعبر عن الانغماس و التغلغل في الشئ ,ثم الدال الثاني (وجه ), و هي مفردة و نكرة و إنما تكتسب التعريف من الإضافة إلى الدال الثالث (الاتهامات) و التي جاءت جمعا للتعبير عن الكثرة و الخطورة و التأزم المجتمعي الحاد, هذه نقطة , و النقطة الثانية بخصوص العنوان أقول : لكأني بمبتدأ محذوف تقديره ( نحن / أنا ) أو ( واقف / واقفون ) أو ربما يمكننا تقدير فعل محذوف ( أقف / نقف ) و لكأني بهذه الاتهامات تطالنا جميعنا – أو هكذا يجب أن يكون لكي يهتز وعينا الجمعي اهتزازا إيجابيا, من أجل التحرك نحو النور و التغير للأفضل ,و هذا دور الأدب الذي أراه و أؤمن به !.

واختارت الأديبة من الوجه, أهم مكوناته ,المعبرة عن الانفعالات النفسية ,ألا وهي العيون, وهذا الاختيار متسق مع العنوان, و متسق أيضا مع دراما النص, و لعله الاتساق نفسه الذي أنتجه الأديب محمد عطية محمود ,في مجموعته ( عيون بيضاء ) فالعيون, و من ثم الذاكرة البصرية,عندهما ,هي وسيلة رصد العالم و هي أيضا وسيلة التعبير.

وقد جاءت في النص ألفاظ هي : الضوء , النافذة البيضاء ,عرضا ,المرآة , ملامح غليظة , نظارة شمسية , تمتقع وجوه ,إخفاء , تزداد ملامح الضابط قسوة , أعين متلصصة , المشهد ,تختفي , تتلصص , انشقاق الرداء عن الكتف, و ظهور جزء من جسد المرأة الأبيض / “يسيل بياضها سريعا من الشق” بحسب تعبير الأديبة البليغ , بصره , يرى , نظارته , ينظر بعيون كالشرر, في عينيه نظرة خزي , نظرة صادقة من عينين مظلومتين , هزيلة , ينظر بغلظة , مخفيا عينين بشريتين تحت نظارته , أعين متجسسة , أعين شامتة , أجساد متدلية من النوافذ … هذه الألفاظ جميعا جاءت من بيئة واحدة / بيئة بصرية ,و لا ينفي ذلك اشتراك حواس أخرى في إنتاج الدلالة الأدبية عبر النص, كالصوت و الرائحة و الحركة و الملمس ,و من ذلك قول الأديبة, في صورة شعرية رقيقة : رائحة سلام تعبق البيت مع البخور ( فالرائحة تدرك بحاسة الشم بينما السلام مفهوم مجرد و عقلي و هكذا جمعت الأديبة بين أنماط من التصوير الفني في صورة واحدة كما أصّل ذلك الدكتور فوزي خضر في كتاب التصوير الفني في شعر فهمي إبراهيم في ديوان معزوفة الوهج الغامض), و لكن الغالب في النص ,هو تلك الحالة من المشهدية البصرية,العامرة بالحركة, و أكثر ما يعنينا هنا ,هو هذه العلاقات و النظام ,الذي يربط مكونات النص جميعها, بدءا من العنوان و حتى نهايته ,فكأننا بإزاء كائن حي ,كل جزء منه يتآزرمع ما جاوره ,لإنتاج دلالة النص الكلية, وحالته الوجدانية المتدفقة ..

القصة تعكس واقعا اجتماعيا قاسيا – يدركه أغلبنا – أجبر الأم الفقيرة , أن تشتري ملابس بناتها بالتقسيط , من شخص عديم الضمير, يضيف صفرا كاذبا على الشيك ,ويتدنّى فيشكو المرأة في قسم الشرطة , و توحي ألفاظ (هزيلة) وصفا لساق البنات و أيديهن و كذلك دخول العائلة بيتها في (وهن) توحي ألفاظ ( هزيلة – وهن ) بالحالة البائسة التي هم عليها .

و انظر إلى هذا التبدل في وجدان الضابط, في مواقف النص بما يتسق بالتصاعد الدرامي للعمل, فانظر إليه في البداية : رجل ذو ملامح غليظة و من خلفه آخران ,رديئا الملابس, ضخما الجثة يخبرها الغليظ – من أسفل نظارته الشمسية, بأمر القبض عليها .

ثم تزداد ملامح الضابط قسوة ,و يزمجر مهددا و يرعد ..

ثم يرفع نظارته على مقدمة رأسه, و ينظر بعين كالشرر, ثم يضرب زوج المرأة , بقبضة تغوص في معدته ..

ثم مع مقاومة العائلة المقهورة , يتأهب لاستعمال سلاحه لأنهم مجرمون – من وجهة نظره , و لن يمنعه أحد من استخدام السلاح و في ذلك دلالة على سلبية الجيران و على اندفاع الضابط و شعوره بسلطته و سلطانه ..

ثم نظرة صادقة من عينين مظلومتين جعلته يتردد , مع احتفاظه بالصرامة والغلظة – ظاهريا فقط – لأنه في الختام يركب السيارة مخفيا عينين بشريتين تحت نظارته ..

لكأني بالنظارة الشمسية فاعل أساسي في الحدث الإبداعي, فهي تحجب الحقيقة ,ثم تأتي لحظة رفع النظارة ,هذه الحركة : ” ثم يرفع نظارته على مقدمة رأسه” تفيدنا بأن رفع النظارة معادل لكشف الحقيقة, من خلال التلامس المباشر بين العينين و الشخوص المرئية, و هذه براعة من الأديبة و لا شك .

و لكن ثمة ملاحظة بلاغية يجب الإشارة إليها, في هذا السياق ,في قول الأديبة : إنه أمام عائلة تدافع عن نفسها كدفاع المظلوم – ربما – أعي أن هذا تفكير الضابط في تلك اللحظة ,و لكن حرف التشبيه / الكاف ربما لو حذفناه لكان أفضل و أبلغ و أعمق في التأثير, لا سيما و أنه – أي الضابط – قد تأثر بالفعل / فهو إنسان قبل كونه شُرطيا , و تأثرت معه – بوصفي متلقيا للنص – بموقف الأسرة الضعيفة المظلومة, و بالواقع الاجتماعي القبيح ,الذي اكتفى بالمشاهدة و التلصص ,و تلك سلبية مقيتة , أو ربما تدنى لدرجة الشماتة و تلك مظاهر اجتماعية نعرفها جميعا .

النص إذن سار وفق نظام محدد وتصاعد مثير, و النظام و التناسب يؤدي – حتما – للجمال ,أما الفوضى فلا تؤدي لشئ جميل , و تتوافر في النص عناصر و مكونات القصة ,من شخصيات و سرد و حوار , و هو نص يمزج بين فنون الشعر و السينما و القصة ,في آن واحد , و هذا يجعله نصا إبداعيا حيا و لا شك .

 

دراسة نقدية للكاتب عاطف عبدالعزيز الحناوي

التعليقات مغلقة.